في وقت تتصاعد فيه نبرة اليمين الأوروبي ضدّ
المهاجرين، تبدو الأرقام أكثر حكمة من الشعارات. فالقارة العجوز تواجه اليوم سؤالا
وجوديا لا يخصّ الحدود بقدر ما يخصّ المستقبل: هل تمثّل الهجرة خطرا يهدّد استقرار
أوروبا أم فرصة لتجديدها؟
وراء الجدل السياسي والضجيج الإعلامي، تقف
حقائق لا يمكن إنكارها: أوروبا تشيخ بسرعة، معدّل الإنجاب يتراجع، وسوق العمل
يعاني من نقص مزمن في المهارات. ووفق بيانات يوروستات (Eurostat) لعام 2023، بلغ معدّل الخصوبة في الاتحاد
الأوروبي 1.38 طفل لكل امرأة، أدنى بكثير من مستوى الاستبدال الضروري (2.1). كما
انخفض عدد المواليد إلى 3.67 ملايين فقط، وهو أدنى رقم منذ ستينيات القرن الماضي.
هذه ليست مجرد مؤشرات ديموغرافية؛ بل ناقوس خطر اقتصادي واجتماعي يهدّد قدرة
القارة على تمويل أنظمة التقاعد والصحة والإنتاج.
تؤكد دراسات في بريطانيا وألمانيا أن كل سنة يقضيها المهاجر خارج سوق العمل تُضاعف كلفة الدعم الاجتماعي، بينما كل نقطة مئوية تُضاف إلى تشغيل الوافدين تُقلّص العجز وتوسّع القاعدة الضريبية. المسألة إذن ليست عدد القادمين، بل مدى سرعة اندماجهم واستدامة مشاركتهم الاقتصادية.
ورغم هذا الانكماش الطبيعي، لم يتراجع عدد
سكان الاتحاد في 2024 بفضل عامل وحيد: صافي الهجرة الإيجابي. فلو أُغلقت أبواب
أوروبا أمام الوافدين، لتقلّصت الكتلة السكانية وتراجعت القاعدة الضريبية المنتجة.
بعبارة أخرى، أصبحت الهجرة اليوم صمام الأمان الديموغرافي للاقتصاد الأوروبي.
لكن السؤال الجوهري: هل تتحوّل هذه المعادلة
تلقائيا إلى مكسب اقتصادي؟
الجواب، بحسب تقديرات منظمة التعاون
الاقتصادي والتنمية (OECD)،
هو أن أثر الهجرة على المالية العامة محايد في المتوسط، أي لا عبء كبير ولا مكسب
تلقائي. المفتاح الحقيقي هو جودة الإدماج في سوق العمل: من يجد وظيفة بسرعة ويساهم
ضريبيا يصبح عنصر دعم لا عبء، والعكس صحيح.
عام 2023، سجّل الاتحاد الأوروبي 4.3 ملايين
مهاجر جديد من خارج دوله، ومنح 410 آلاف شخص حق اللجوء، وفق بيانات Eurostat. هذا التدفق
الكبير يتزامن مع نقص صارخ في اليد العاملة بقطاعات حيوية مثل الرعاية الصحية
والبناء والتقنيات الخضراء. ففي إنجلترا مثلا، يشغل
المهاجرون قرابة ثلث وظائف
الرعاية للبالغين، وهي نسبة مشابهة في ألمانيا وفرنسا. من دون هذه الأيدي العاملة،
كان انهيار الخدمات الاجتماعية مسألة وقت.
من هنا، أصبح الملفّ الديموغرافي في صلب
التحوّل الاقتصادي الأوروبي. المفوضية والمجلس الأوروبي أقرّا في 2024 خطة شاملة
لسدّ فجوات المهارات باعتبارها "تحديا رئيسيا لتنافسية الاتحاد وانتقاله
الأخضر والرقمي". بمعنى أوضح: لا يمكن لأوروبا أن تدخل اقتصاد المستقبل من
دون موارد بشرية جديدة داخلية وخارجية.
لكن الطريق ليس مفروشا بالورود. فجوة
التشغيل بين المهاجرين والمواطنين ما تزال واسعة، إذ تشير دراسة للبرلمان الأوروبي
(2024) إلى فارق تشغيل يبلغ نحو 8.6 نقاط مئوية ضدّ المهاجرين حتى بعد ضبط العوامل
الفردية، ما يعني أن المشكلة ليست في المهارة فقط، بل في منظومات الإدماج: اللغة،
معادلة الشهادات، التمييز، والبيروقراطية البطيئة.
حين تتعثر هذه المنظومات، تتحوّل الهجرة من
فرصة إلى احتقان سياسي واجتماعي. وتستغلّ أحزاب اليمين المتطرّف هذا الفشل لتغذية
خطاب الخوف. لذلك ترى المفوضة الأوروبية لشؤون الهجرة، يلفا يوهانسون، أن "أوروبا
لا تعاني من فائض مهاجرين، بل من نقص في الرؤية حول الهجرة".
الفرصة الأخرى التي قلّما يُسلّط الضوء
عليها هي ريادة الأعمال المهاجرة. تشير تقارير OECD إلى أن المولودين في الخارج أكثر ميلا لخلق
مشاريع صغيرة ومتوسطة، وأنّ أنشطتهم وفّرت نحو 4 ملايين وظيفة جديدة بين 2011
و2021. هذا لا يصنعه “سحر الهجرة”، بل بيئات تشجّع الابتكار وتزيل العقبات
الإجرائية واللغوية والمالية أمام الوافدين.
وفق بيانات يوروستات (Eurostat) لعام 2023، بلغ معدّل الخصوبة في الاتحاد الأوروبي 1.38 طفل لكل امرأة، أدنى بكثير من مستوى الاستبدال الضروري (2.1). كما انخفض عدد المواليد إلى 3.67 ملايين فقط، وهو أدنى رقم منذ ستينيات القرن الماضي. هذه ليست مجرد مؤشرات ديموغرافية؛ بل ناقوس خطر اقتصادي واجتماعي يهدّد قدرة القارة على تمويل أنظمة التقاعد والصحة والإنتاج.
أما "الخطر" الحقيقي، فيكمن في
سوء الإدارة لا في المهاجرين أنفسهم: حدود خارجية غير منسّقة، إجراءات لجوء بطيئة،
سياسات إدماج مجزّأة، وسوق عمل يقبل أحيانا بظروف استغلالية. لذلك أقرّ الاتحاد
“الميثاق الأوروبي للهجرة واللجوء” الذي دخل حيّز النفاذ في يونيو 2024، لتوحيد إجراءات
التسجيل والفحص على الحدود وتوزيع المسؤولية بين الدول. نجاح هذا الميثاق سيُقاس
بقدرته على تحقيق التوازن بين الكفاءة والكرامة: تسريع البتّ في الطلبات دون تقويض
حق اللجوء أو الإعادة القسرية.
ماليا، تؤكد دراسات في بريطانيا وألمانيا أن
كل سنة يقضيها المهاجر خارج سوق العمل تُضاعف كلفة الدعم الاجتماعي، بينما كل نقطة
مئوية تُضاف إلى تشغيل الوافدين تُقلّص العجز وتوسّع القاعدة الضريبية. المسألة
إذن ليست عدد القادمين، بل مدى سرعة اندماجهم واستدامة مشاركتهم الاقتصادية.
اجتماعيا، "قابلية المجتمع"
للهجرة تتوقف على عدالة توزيع آثارها. فعندما تتركز الجاليات في أحياء محدودة
الخدمات أو مدارس مكتظة، يتولد الاحتكاك ويُختطف النقاش من المتطرفين. والحلول
ليست أمنية فحسب، بل تتطلب تخطيطا حضريا وتمويلا للخدمات المحلية وبرامج لغة
ومعادلة شهادات تبدأ منذ اليوم الأول للوصول. فالاندماج المبكر يحمي الوافد
والمجتمع معا.
كما أن الإنفاذ الذكي للقانون ـ أي مكافحة
العمل غير النظامي ـ لا يحمي المهاجرين فقط بل يرفع أجور المواطنين ويحدّ من
المنافسة على الكلفة المنخفضة. وعندما يشعر الجميع أن القواعد عادلة ومطبّقة على
الجميع، تتراجع المخاوف ويخبو الخطاب المتطرف.
في المحصلة، ليست الهجرة خطرا
"ذاتيا" ولا فرصة "مضمونة". أوروبا التي تشيخ وتتحوّل
تكنولوجيا وبيئيا تحتاج إلى بشر إضافيين بالمهارات المناسبة، لكنّ نجاحها يعتمد
على سياسات عقلانية تربط الهجرة بحاجة الاقتصاد لا بهواجس الهوية.
فإذا أحسنت القارّة إدارة التدفّقات وربطتها
باستراتيجية المهارات، ورفعت جودة الإدماج وحاربت الاستغلال بلا تردد، ستتحوّل
الهجرة من عبء سياسي إلى بنية تحتية بشرية تغذي النمو والابتكار والقدرة المالية.
أمّا إذا تُركت بلا تنسيق وتمويل وشفافية، فستظل تغذي الانقسام وتبدّد الفوائد
المحتملة.
وفي النهاية، ليست أوروبا هي من تختبر
المهاجرين، بل سياساتها هي التي تخضع للاختبار: هل تختار أن ترى في
الوافدين تهديدا لذاتها، أم طاقة جديدة لبعث شبابها الاقتصادي والاجتماعي؟