مقالات مختارة

عالم يستيقظ ومحيط عربي يعود للنوم!

يحيى مصطفى كامل
الأناضول
الأناضول
قصر نظرٍ شديد أن ننتصور أو نراقب تصرفات وتصريحات ترامب الحمقاء، الهوجاء في الأغلب، لا لشيء سوى التسلية، كأننا نراقب مهرجاً في سيرك، أو مشهداً كوميدياً أو قراقوز (وإن كان كذلك بالفعل). شئنا أم أبينا هو رئيسٌ منتخب، فأياً كانت العملية الانتخابية الأمريكية واحتجاجات الكثيرين عليها، إلا أن الثابت أن كتلةً بشريةً ضخمة اختارت هذا «المهرج». أسباب ذلك عديدة ومتضاربة في بعض الأحيان، وعلى الرغم من أنه ليس هنا مجال الغوص فيها، إلا أننا قد نورد بعضها من عينة تردي الأوضاع الاقتصادية، والخوف من الآتي وانهيار المنظومة الاجتماعية والاقتصادية، لمناطق ضخمة نظراً لهجرة الصناعات للبلدان القادرة على الإنتاج الأرخص، ما ساعد على تأجيج الخوف والكراهية للآخر والمهاجر.

من خانة رد الفعل جاء انتخاب ممداني عمدةً لنيويورك، الأمر الذي نفث فينا جميعاً دفقةً من النشوة والحماس لم نعرفها منذ سنوات، ولعل شيئاً لم يؤكد من أثرها، قدر الخسائر الفادحة في البشر والقادة، والدمار والآلام التي تكبدناها طيلة عامين مضافةً لتاريخٍ من التدهور والتراجع البليد.

فها هي المدينة الأهم في أمريكا، وأحد عواصم رأس المال الأبرز والأهم، تقف في وجه إدارة ترامب وسطوة رأس المال، منتخبةً مرشحاً يجاهر بما قد لا يجرؤ أن يهمهم به مسؤول عربي، في الغرف المغلقة، من انحيازه الاشتراكي إلى إدانته لجرائم الاحتلال ومشروعه الهادف إلى تقسيمٍ عادلٍ نوعاً ما للثروات، وتحسين مستوى معيشة سكان المدينة.

إن هذا الحدث الرمز لا يأتي بمعزلٍ عن ما يحدث في جامعات أمريكا، ولا العالم بأسره، فالثابت أن «الصَلب الفلسطيني»، زلزل ضمير العالم، واجتاح أدمغة الناس، مطارداً القناعات القديمة، الآسنة، البليدة المستقرة منذ عقودٍ طويلة عن المظلومية اليهودية، ليفتح ضمائرهم ويحل محلها المعاناة البشعة للشعب الفلسطيني، وحقه الذي أهدرته حكوماتهم المتعاقبة. لقد اعترفت 159 دولة بالدولة الفلسطينية، وصرنا نرى تضامناً مذهلاً من دول كإسبانيا وأيرلندا ودول أمريكا اللاتينية، التي أزعم أن أهلها يتماهون مع المعاناة والظلم الفلسطينيين.

إن كل ذلك، على عظمته، ليس إلا مقدمةً، فالأجيال الشابة التي يتفتح وعيها الآن هي التي أجزم بأننا سنرى معها ما سيغير قواعد اللعبة تماماً.

لا شك في أن كل ذلك عظيم في حد ذاته ويدعو للتفاؤل. لكننا ما أن ننظر قبل المشرق العربي، نفاجأ بمشهدٍ آخر، مغايرٍ تماماً، هو النقيض، من دون مبالغة، كأن المذبحة الفلسطينية كانت جملةً اعتراضيةً، ثقيلة الظل مزعجة، عطلت هذه الأنظمة ومشاريعها طيلة قرابة العامين، ومن نافل الذكر أن نقول، إن هذه المشاريع لا تهدف إلى مصلحة الشعوب ولا تراها من الأساس! لقد انكفأنا على قضايانا العالقة منذ عشرات السنين، التي لم ولن تؤدي إلى شيء، فمع افتتاح المتحف المصري الجديد، وهو صرح عظيم ومدهش، من دون شك، لم يلبث الجمهور أن انزلق إلى صراعات الهوية، والمضحك المبكي لأكثر من سبب أن أبسط متابعة للسجال يكشف كم الجهل بالتاريخ الحقيقي وطبيعة تطوره وصراعاته.

انتخاباتٌ عبثية تماماً، تخاض هنا وهناك، لتعيد إنتاج مجالس وهيئات تحددها أجهزة الأمن، سودان تتصارع فيه المصالح والجشع، وتدور فيه آلة الذبح والاغتصاب والتنكيل. للوهلة الأولى كدت أن أكتب «دول عربية» إلا أنني سرعان ما غيرت ذلك إلى «محيط» عربي، فدولنا ومجتمعاتنا تتآكل من الناحية الفعلية لتصبح تجمعاتٍ بشرية باهتة، كتلة مبعثرة عبر وديان وصحارى تُنهب ثرواتها ولا حول لها ولا قوة.

بقدر ما كان زلزال غزة مدمراً وضاغطاً على أنظمة التطبيع العربية (خاصة النظام المصري والأردني) فقد كان اختباراً لمدى مرونتها، أو لنقل قدرتها على استيعاب وامتصاص السخط الشعبي، وقد نجحت، لعل الأدق أن نقول، إن الشعوب هي التي فشلت.. بعيداً عن المزايدات، فقد كنا نتوقع هيجاناً ونزولاً إلى الشارع أكثر بكثير مما رأينا، إلا أننا لم نر شيئاً من ذلك، وقد نعزو ذلك إلى نجاح الأنظمة تماماً في ترويض وكسر إرادة وكرامة هذه الجماهير. بذا، وإزاء الرفض والغضب المتناميين اللذين يجابه بهما الكيان الصهيوني في الخارج، فإن الأنظمة العربية صارت، بمفارقةٍ أو مزحةٍ تاريخية بذيئة، هي الحاضنة والداعم والسند لإسرائيل كتفاً بكتف مع ترامب واليمين الإنجيلي الصهيوني إلى غيرها من تجمعات المصالح والملتاثين.

نحن نعيش وضعاً عربياً كارثياً إلى جانب كونه عبثياً وبذيئاً.. بغض النظر عن كون كل شيءٍ في كياني يصرخ بأن هذا لا يمكن أن يستمر فإن التاريخ يعلمنا أن فترات الركود والعزلة لا يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية، خاصةً في عصر السرعة الذي نعيش فيه، فمهما فعلت الأنظمة وكبتت فإن ضغط الداخل ذي الأوضاع المتردية وتغيرات العالم الخارجي، لا بد أن تؤدي إلى التغيير. لا أنفي بذلك مسؤولية الناس على الأرض، إلا أنني أتكلم من منطلق تصادم الأحداث. نحن بانتظار شرارة.
لم تكنها غزة على فداحتها، إلا أنها آتيةٌ لا محالة.

القدس العربي
التعليقات (0)