مقالات مختارة

أوكرانيا: اتفاقية سلام أم مقدمة لحرب مقبلة؟

حسين مجدوبي
جيتي
جيتي
يحمل ملف أوكرانيا تطورات مثيرة للغاية تبرز كيف تريد واشنطن فرض حل ولو مؤقت للحرب مع روسيا، وهو حل لا يجعل أوروبا قزما سياسيا، بل قد يتسبب في حرب خطيرة خلال السنوات المقبلة بين موسكو والدول الأوروبية.

ومنذ وصوله الى البيت الأبيض، يحاول الرئيس دونالد ترامب وفريقه فرض اتفاقيات سلام في عدد من النزاعات الدولية، هي في العمق أقرب الى هدنة حرب مؤقتة قابلة للاستئناف والاشتعال في أي وقت. ونجح فريق ترامب في بعض النزاعات، ولو على حساب القانون الدولي مثل حالة فلسطين، والجميع ينتظر دور واشنطن لإنهاء الأزمة الدبلوماسية بين المغرب والجزائر ونهاية نزاع الصحراء الغربية، ونجحت في إنهاء النزاع بين تايلاند وفيتنام وبين الهند وباكستان.

ويبقى أبرز تحد في وجه البيت الأبيض هو إنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا، لأنها حرب تقع في أوروبا وتمس الغرب برمته. وعاد الرئيس الأمريكي ترامب الى طرح تصوره لنهاية الحرب المتمثل في ضرورة تخلي كييف عن شرق البلاد لصالح روسيا علاوة على شروط أخرى، ويعد استسلاما حقيقيا من طرف كييف.

ومن ضمن ما تسرب من هذا التصور، الذي يضم 28 نقطة وتخضع للتعديل، هو اتفاق عدم الاعتداء بين روسيا من جهة وأوكرانيا وأوروبا من جهة أخرى. في الوقت ذاته، التزام أوكرانيا دستوريا بعدم الانضمام الى الحلف الأطلسي، ثم أن لا يتجاوز حجم جيشها 600 ألف جندي، في المقابل ستحظى أوكرانيا بحماية حقيقية من طرف الولايات المتحدة في حالة نشوب أي نزاع. ويبقى أخطر ما جاء في تصور ترامب هو إلزام اعتراف أوكرانيا بشبه جزيرة القرم ودونيتسك ولوغانسك كأجزاء من الأراضي الروسية، وأن يكون الإقليمين الأخيرين منزوعي الأسلحة كمنطقة فصل بين روسيا وأوكرانيا.

وهكذا، يحمل هذا التصور للسلام معطيات واقعية، بل وعودة الى التزام الغرب في بداية التسعينات بمجموعة من التعهدات التي أعلنها بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وهي عدم توسيع منظمة شمال الحلف الأطلسي نحو شرق أوروبا. وكان الغرب بزعامة الرئيس جورج بوش الأب قد تعهد بعدم توسيع حظيرة الحلف الأطلسي، ولم يلتزم زعماء الغرب اللاحقين بهذا التعهد، حيث جرى ضم غالبية أعضاء حلف وراسو الى هذا التجمع العسكري خاصة خلال جورج بوش الابن.

وعندما أراد الحلف الأطلسي التمدد نحو أوكرانيا، كان الرد الروسي العنيف بشن حرب ضد هذا البلد، بل والتهديد بحرب حقيقية ضد شرق أوروبا. وهكذا، فرضت هذه الحرب عودة ولو جزئيا الى اتفاقيات بداية التسعينيات بشأن وقف توسع الحلف الأطلسي نحو الحدود الروسية.

ويلاحظ كيف أن الاتفاق الذي سيتم التوقيع عليه لإنهاء الحرب، وبالضبط في نقطة «التعهد بعدم الاعتداء المتبادل» يشمل ثلاثة أطراف، وهي أوكرانيا وأوروبا وروسيا، وتبقى الولايات المتحدة خارج نطاق هذه النقطة وكأنها تنسلخ من الغرب الأوروبي، في حين يستوجب المنطق وجود الحلف الأطلسي كطرف معني بعدم الاعتداء.

في غضون ذلك، ستضطر أوكرانيا الى القبول المؤقت بهذا الاتفاق لوقف انهيار بلدها ككيان بعدما انهار اقتصادها وتضررت الكثير من البنيات الحيوية مثل المطارات والطرق والموانئ ومحطات الكهرباء وهجرة اقتربت من خمسة ملايين من مواطنيها في ظرف ثلاث سنوات فقط. وها هو الرئيس الأوكراني فلاديميرو زيلنسكي يتعرض للضغط لقبول الاتفاق، بل الإهانة مجددا من طرف الرئيس ترامب الذي اتهمه نهاية الأسبوع الماضي بأنه لا يشكر دور ومساعي واشنطن لإيقاف الحرب وإنقاذ أوكرانيا وشعبها من الدمار والقتل. وتمتد الإهانة الى أوروبا التي تجد نفسها كقزم سياسي بين موسكو وواشنطن بدور هامشي في اتفاقية السلام.
لا يثق الأوروبيون كثيرا في أي اتفاق مع روسيا

إلا أن هذا القبول بهذا الاتفاق للسلام الآخذ في التبلور هو ربما قنبلة للمستقبل على شاكلة قبول المانيا باتفاقية فرساي مؤقتا لتخوض حربا جديدة، وهي الحرب العالمية الثانية، التي تعتبر الأكثر عنفا في تاريخ البشرية حتى الآن. وبدون شك، لن يستسلم التيار القومي الأوكراني، وسيعمل على السيطرة على السلطة خلال السنوات المقبلة في كييف ليفجر حربا جديدة ضد روسيا، وهذه المرة ليس باسم ومبرر الحق في الانتماء الى الاتحاد الأوروبي ومنظمة شمال الحلف الأطلسي، بل بمبرر شرعي وهو استعادة أراض تحت الاحتلال الروسي، منطقة القرم وودونيتسك ولوغانسك.

ولا يثق الأوروبيون كثيرا في أي اتفاق مع روسيا، وها هي عدد من دول أوروبا لا تستبعد اندلاع حرب بين أوروبا وروسيا، وتطرح السيناريو الأسوأ وهو عدم مشاركة الولايات المتحدة في الحرب مباشرة، بل فقط تقديم الدعم اللوجيستي في حالة اندلاعها. ولهذا، تعمل مختلف الجيوش الأوروبية على تطوير ترسانتها من الأسلحة وتعمل على التنسيق في ما بينها على مستوى المناورات العسكرية المكثفة وعلى مستوى إصدار قوانين جديدة تسمح بنقل السلاح من دول إلى أخرى بدون شروط بيروقراطية لمواجهة اندلاع أي طارئ مثل الحرب.

في هذا الصدد، صرح الجنرال فابيان ماندون، رئيس أركان القوات المسلحة الفرنسية أن الجيش الفرنسي يجب أن يكون «مستعدًا لصدام في غضون ثلاث أو أربع سنوات» مع روسيا. وأشار إلى احتمال أن يكون هذا الصدام «اختبارًا»، ربما يجري بالفعل الآن في أشكال «هجينة»، ولكن أيضًا احتمال حدوث مواجهة أكثر عنفًا مستقبلا. ويتحدث قادة جيوش أخرى مثل بريطانيا والمانيا وهولندا وبولندا عن هذه الفرضية وكأنها واقع قابل للتحقق في السنوات المقبلة. ويكفي صدور إصدارها تعليمات الى الشعوب الأوروبية لكي تتعلم تخزين الطعام والتعامل مع الأزمات الطارئة.

يكشف التاريخ الأوروبي منذ القرن الثامن عشر وقوع حروب كبيرة في القارة الأوروبية تعيد هيكلة الخريطة الجيوسياسية مثل الحروب الفرنسية – البريطانية في القرن التاسع عشر وبدايته، والحرب البريطانية – الروسية منتصف القرن 19، ثم الحرب الألمانية – الفرنسية، وفي القرن العشرين حدوث الحرب العالمية الأولى والثانية ثم انهيار جدار برلين الذي كان من نتائج الحرب الباردة، والآن تعيش أوروبا الحرب الروسية – الأوكرانية التي قد تكون مقدمة لحرب أوروبية – روسية خلال السنوات المقبلة لتعيد تشكيل الخريطة الغربية على الألف في القارة الأوروبية.

القدس العربي
التعليقات (0)

خبر عاجل