قضايا وآراء

كيف يمكن توسيع مفهوم "العدل" ليستوعب أبعادا تربوية وروحية؟

عبد الهادي المهادي
عبد السلام ياسين: الإسلاميون حين يتقدمون للحكم إنما يُستدعون لإنقاذ أمة "مقهورة مغلوبة على أمرها..
عبد السلام ياسين: الإسلاميون حين يتقدمون للحكم إنما يُستدعون لإنقاذ أمة "مقهورة مغلوبة على أمرها..
شارك الخبر
تتقدّم مقدّمة كتاب "العدل: الإسلاميون والحكم" للمفكّر والإصلاحي المغربي عبد السلام ياسين ـ والمقالُ يشتغل ضمنَها وفي إطارها ـ باعتبارها نصا يستنطقُ واقعَ الأمة ويستشرفُ مصيرَها، ويُحدّد من داخل جراحها الأفق الذي ينبغي أن يُنظرَ منه إلى العدل لا بوصفه مطلبا سياسيا، وبرنامجَ حكمٍ فحسب، بل بكونه رسالةً إيمانية.

وحين يقول الكاتب، ومنذ الجُملة الأول: “يتصدر مطلب العدل كل المطالب في البرامج السياسية الجادة”، فهو لا يقرّر حقيقة سياسية محايدة، بل يضع العدل في مقام الأصل الذي به تستقيم حياة النّاس، وفي مقام الواجب الذي لا يكتمل الانتساب إلى الإنسانية ـ وليس الإسلامية فقط ـ إلا بالعمل على إقامته، وليس الأمر به فقط.. لكنه لا يكتفي بهذا المعنى الأخلاقي النظري، بل يجعل العدل مطلبا تشرئب إليه "الأمة المستضعفة في الأرض"، وكأن حضورَ الاستضعاف ليس سوى الوجهِ الآخر لغياب العدل. ومن هنا يتحوّل العدل إلى معيار يُقرأ به وضعُ الأمة الإسلامية كلّه، فيُفسَّرُ الاستبداد والهيمنة والتمزّق بوصفها أعراضا لمرض واحد.

يتصدر مطلب العدل كل المطالب في البرامج السياسية الجادة”، فهو لا يقرّر حقيقة سياسية محايدة، بل يضع العدل في مقام الأصل الذي به تستقيم حياة النّاس، وفي مقام الواجب الذي لا يكتمل الانتساب إلى الإنسانية ـ وليس الإسلامية فقط ـ إلا بالعمل على إقامته، وليس الأمر به فقط..
ومنذ البداية يؤكّد الأستاذ ياسين أنّه ليس بصدد تقديم "برنامج جاهز" للحكم حين يقول: "ليس في هذا الكتاب برنامج للحكم (...) بل هو نظرٌ إلى مستقبل المسلمين على اتساع رقعة دار الإسلام". هذا التصريح يُخرج المقدّمةَ من "منطق التقنية السياسية" إلى "منطق الرؤية والرسالة"؛ فالعدل ليس عندَه قرارا إداريا، ولا مشروعَ قانون، بل هو تأسيسٌ طويلُ المدى، يربط مصيرَ الحكم بمصير الأمة كلّها. وهنا تبرز إشكاليةٌ مهمّة: هل يمكن لمفهومٍ بهذه السّعة أن يُترَجمَ إلى مؤسسات، أم أنّه يظل في مستوى النّداء التربوي ـ الرّساليِّ الذي يستهدف أولا إعادة تشكيل الإنسان؟

يستعرض الكاتبُ الأحداثَ التي صاحبتِ السنوات الثماني التي فصلت بين كتابة الكتاب وظهوره (1992/2000م، ويقع في 597 صفحة)، لا سردا تاريخيا، بل بوصفها محطات لامتحان الأمة: حرب العراق، انتكاس الجهاد الأفغاني، مخاضات الثورة الإيرانية، تفاقم جراح فلسطين، مأساة البوسنة والهرسك. وهو يصفها بعبارات حارّة من قبيل: "توحَّلت فيها الأمة الإسلامية"، و"استفحل عدوان اليهود"، و"عاش المسلمون بكمد وألم عاجزين". هذا التوصيف لا يهدف إلى اسْتِدْرارِ العاطفة، بل إلى وضع السؤال المركزي: كيف يمكن أن يتحدّث المرءُ عن العدل في عالم منسوبُه من الظلم مرتفع جدّا؟ وهل يصبح الكلامُ على إقامة العدل نوعا من المثالية في عالِم يشتغل على منطق القوة وحده؟

مع دخول الكاتب إلى الاشتباك الأوّليّ مع العولمة، يتخذ الخطاب مسارا نقديا حادّا؛ فالعولمة عنده ليست تطورا تاريخيا محايدا، بل هي "جاهلية" جديدة تمتد في الاقتصاد والثقافة والسياسة: "غزتنا الحداثة الجاهلية ولفّتنا بأرديتها، فنحن في حياة رثة هامشيـة حول مائدة الحداثة الجاهلية الصائلة"، و"العالم المعلوماتي التلفزيوني مشهد لاهٍ مجنون مجنن". هذا التوصيف يربط لأول مرة بين العدل باعتباره قيمة دينية وبين شروط العالم المعاصر التي تخلق اللاتكافؤ والهيمنة. وعلى هذا الأساس فإنّ العولمة، وبهذا الحجم من السيطرة، لا يكفي معها الوعي الرسالي وحده لتغيير موازين القوى، بل لا بدّ من بناء أدوات سياسية واقتصادية جديدة للتّفاعل معها؛ استنباتا ومواجهة.

لا يحصر الكاتبُ الظلم من الخارج وحده، بل يحمل نقدا قاسيا للداخل أيضا: الاستبداد، التغريب، ضياع القيم، تفكك المجتمع، كلّها أسبابٌ يعتبرها لا تقل خطورةً عن الضغوط الأجنبية. يقول: "جسم الأمة مريض، ونفوس المسلمين وعقولهم مريضة". ويضيف أن الاستبداد الداخلي طوّح بالأمة وأضعف قدرتها على مواجهة التحديات.

تظل مقدمة كتاب "العدل: الإسلاميون والحكم" نصا مشحونا بالتوتر بين الواقع والمثال، بين الجرح والأمل، بين التشخيص الحاد والرؤية الواسعة. وهي مقدّمة لا تسعى إلى تهدئة القارئ، بل إلى استنفاره، عبر خطاب يستلهم حرارة الوحي وقسوة الواقع في آن واحد.
هذا التشخيص المتعدد المصادر يوحي بأن العدلَ لا يمكنْ أن يُختزلَ في إصلاح الحكم فقط، بل يتطلّب إصلاحا اجتماعيا ونفسيا وفكريا متزامنا. المشكلة أن هذا الإصلاح الشامل يواجهه مشكلة عويصة: إنّه الأنظمة السياسية المغلقة والواقع الاجتماعي المتشظٍّي.

على الرغم من حدّة النقد، تنفتح المقدّمةُ على أفقٍ وحدويٍّ وثيق؛ فالكاتبُ يُصرّح قائلا: "لا ندعو إلى قطيعة رحم بين المسلمين مهما كان ماضيهم، إنما ندعو إلى عدل الإسلام وأخوة الإسلام وتكافل المسلمين". هذه الدعوة تؤسس لفكرة أنّ العدل ليس مواجهة بل هو جامع، وأن إصلاح الحكم لا يعني إقصاء أحد، بل إعادة إدماج الجميع في مشروع مشترك.

في مناسبات عدّة يؤكّد الكاتب على أنّ العدلَ، في رؤيته، لا ينفصل عن "الإحسان" ـ الإحسان بأبعاده المختلفة الروحية والاجتماعية ـ وأن إقامةَ حكمٍ عادل يتطلب "تركيبة نفسية واجتماعية وسياسية جديدة للمسلمين". وفي هذا الإطار يربط بين العدل وبين "حق الإنسان في معرفة ربه"؛ هذا الحقّ الذي يعتبره أسمى الحقوق على الإطلاق، وأنّ على الدّولة الإسلامية، التي يطلبها، أن تُساهم في إزاحة من أمام مواطنيها كلّ ما يُشاغب عليه دون بلوغهم هذا المقصد الأسمى. هنا يحضر العدل باعتباره نظاما روحيا واجتماعيا واقتصاديا في آن، لا باعتباره جهازا قضائيا أو إداريا. فهل يؤدي توسيع معنى العدل إلى درجة يصبح فيها مفهوما شاملا لكل شيء إلى صعوبة قياسه وتطبيقه عمليا؟ بل قل: هل يمكن لنظام سياسي حديث أن يستوعب هذا البعد الروحي ـ التربوي الواسع؟

يتوجه الكاتب، في نهاية المقدمة، نحو الغاية الكبرى: فالإسلاميون حين يتقدمون للحكم إنما يُستدعون لإنقاذ أمة "مقهورة مغلوبة على أمرها"، وأن واجبهم ليس فقط إقامة دولة، بل تقديم "رسالة الإسلام بشرى للإنسان وتخليصا له من ربقة ما يستعبده من دون الله، ويُضله، ويظلمه، ويحقره.". هنا يتجاوز العدلُ حدودَ الدولة ليصبح أفقا إنسانيا، ويتجاوز حدودَ المطالب السياسية ليصبح مشروعا للتحرير الكوني. غير أن هذا الطموحَ يفتح بابَ إشكال كبير: هل يمكن لمشروع إصلاحيّ لم يُنْجِزْ بعدُ شروطَه الداخليةَ أن يتوجَّهَ مباشرةً نحو أفقٍ عالمي؟ وهل يحتاج الحديث عن العدالة الكونية إلى قوة عالمية أم إلى نموذجٍ حيّ يُحتذى؟

في الحقيقة، تظل مقدمة كتاب "العدل: الإسلاميون والحكم" نصا مشحونا بالتوتر بين الواقع والمثال، بين الجرح والأمل، بين التشخيص الحاد والرؤية الواسعة. وهي مقدّمة لا تسعى إلى تهدئة القارئ، بل إلى استنفاره، عبر خطاب يستلهم حرارة الوحي وقسوة الواقع في آن واحد. ومن هنا، فإن قراءتها ليست بحثا عن برنامج، بل عن روح مشروع يريد إعادة ترتيب العالم من خلال إعادة ترتيب الإنسان.
التعليقات (0)