تشترك التجارب السياسية في السودان ومصر والعراق وسوريا واليمن
والجزائر وليبيا في خاصية مركزية تكاد تُشكّل سمة بنيوية للدولة
العربية الحديثة:
هيمنة المؤسسة
العسكرية على المجال السياسي، إمّا بصورة مباشرة عبر الانقلابات
وتولي السلطة، أو بصورة غير مباشرة من خلال التحكم في مسارات القرار المدني وإعادة
تشكيل الحقول السياسية والاقتصادية بما يضمن استمرار النفوذ العسكري. وفي ضوء هذه
المعطيات، تبرز إشكالية مركزية: هل يمكن للعسكر، في السياق العربي، أن يكونوا جزءا
من الحل، أم أنهم يرسّخون بنية المشكلة ذاتها؟
يستدعي تناول هذه الإشكالية العودة إلى التجارب التاريخية التي
أُحيطت، في بداياتها، بخطاب تحرري أو حداثي أو تنموي، لكنها انتهت إلى نماذج
سلطوية مغلقة. فقد جاءت الانقلابات العسكرية في منتصف القرن العشرين استجابة – في
ظاهرها – لمطالب التحرر الوطني وبناء الدولة الحديثة. غير أن المسار التاريخي
سرعان ما كشف تحوّلا جوهريا: انتقال المؤسسة العسكرية من فاعلٍ وطني إلى فاعل
سلطوي، يختزل الدولة في بنيته التنظيمية ويُفرغ المؤسسات المدنية من مضمونها.
تبرز تجربة عبد الرحمن سوار الذهب استثناءً تاريخيا؛ فقد تولّى الرجل السلطة في السودان بعد انتفاضة 1985م، والتزم بما وعد به: إدارة مرحلة انتقالية قصيرة تفضي إلى تسليم السلطة للمدنيين.
مثال السودان في هذا السياق بالغ الدلالة؛ فقد شكّلت العلاقة بين
المدنيين والعسكريين محور التجربة السياسية السودانية منذ الاستقلال، وتكررت
خلالها محاولات لترتيب معادلة توازن بين المؤسستين، لكن الغلبة كانت ـ في المحصلة ـ
لصالح تدخل الجيش في
السياسة. وقد عبّر الدكتور حسن الترابي، وهو أحد أبرز
الفاعلين الإسلاميين، عن إدراك متأخر لهذا المأزق عندما قال في برنامج
"الإسلاميون" الذي بثّته قناة الجزيرة منذ سنوات: "لو استقبلتُ من
أمري ما استدبرتُ لما تحالفتُ مع العسكر". يمثّل هذا الاعتراف، من زاوية
أكاديمية، لحظة نقد ذاتي نادرة، تكشف هشاشة المراهنة على المؤسسة العسكرية بوصفها
شريكاً في مشروع التحول السياسي.
ويبدو أن الإشكال ذاته تكرر في بلدان أخرى، حيث صعد قادة مثل جمال
عبد الناصر، حافظ الأسد، ومعمّر القذافي من خلفيات عسكرية مغلقة، محمّلين بوعي
طبقي وسياسي صدامي، وبنزعة تحديثية ذات طابع فوقي. غير أن مشاريعهم انتهت إلى بناء
أنظمة أمنية متصلّبة، ارتبط فيها الجيش وشبكات الاستخبارات والبيروقراطية بنمط من
الحكم التسلطي، أسهم في إضعاف البُنى المجتمعية، وتدمير المجال السياسي، وتحويل
الاقتصاد الوطني إلى اقتصاد ريعي خاضع للولاء السياسي. وهنا يطرح سؤال تحليلي
نفسه: هل كانت الأزمة نابعة من شخصيات هؤلاء القادة، أم من منطق البنية العسكرية
حين تتحول إلى فاعلٍ سياسي مركزي؟
وسط هذه الصورة القاتمة، تبرز تجربة عبد الرحمن سوار الذهب استثناءً
تاريخيا؛ فقد تولّى الرجل السلطة في السودان بعد انتفاضة 1985م، والتزم بما وعد
به: إدارة مرحلة انتقالية قصيرة تفضي إلى تسليم السلطة للمدنيين. هذه التجربة،
برمزيتها الأخلاقية والسياسية، توفر مادة مهمة لدراسة إمكانات التحول المدني في
الدول ذات التاريخ العسكري. ومع ذلك، لم تتحول إلى تقليد مؤسسي داخل الجيش
السوداني، الذي عاد بعد سنوات قليلة إلى بنية التدخل السياسي، وصولا إلى الحرب
الحالية التي تُظهر كيف تنزلق الجيوش، حين تفقد المهنية والاستقلال، إلى أدوار
تتجاوز الوظيفة الأمنية إلى صراعات مسلحة معقّدة تتداخل فيها المصالح الإقليمية
والدولية.
إنّ خلاصة التجربة التاريخية تشير إلى أن الرهان على العسكر لإنتاج انتقال سياسي ديمقراطي لا يزال رهانا ضعيف الأساس، لأن منطق المؤسسة العسكرية ـ كما تشكّل في السياقات العربية ـ يقوم على مركزة السلطة لا على توزيعها. و
إنّ الإشكال البنيوي الأهم يتمثل في أن الجيوش العربية، في أغلبها،
نشأت في سياقات دولة ما بعد الاستعمار، حيث كانت المؤسسة العسكرية إحدى دعائم بناء
الدولة الجديدة، ولم تُبنَ مؤسسات مدنية قوية قادرة على أن تشكّل رادعاً ضد عسكرة
السياسة. وبفعل هذا التاريخ، أصبح الجيش ـ في كثير من الدول ـ المؤسسة الأكثر
تنظيما وتمويلا وهيكلة، ما جعله قادرا على ملء الفراغ السياسي عند كل أزمة. وهنا
يبرز سؤال منهجي يحتاج إلى مزيد من التفكيك: هل تتدخل الجيوش لأنها راغبة في
السلطة، أم لأنها تجد المجال المدني هشّا إلى درجة تجعل تدخلها يبدو، ظاهرياً على
الأقل، ضرورة وطنية؟
وتزداد الإشكالية تعقيدا حين نأخذ في الاعتبار أن العديد من الأنظمة
العسكرية لم تكن تعمل بمعزل عن القوى الدولية، التي وجدت في هذه الأنظمة شريكا
أكثر قابلية للضبط من الحكومات المدنية المنتخبة. وهذا ما يعيد طرح سؤال آخر: إلى
أي مدى يمكن فصل مسؤولية العسكر عن دور القوى الخارجية التي عزّزت حضورهم واستثمرت
في بقائهم؟
من منظور بحثي صرف، يبدو أننا أمام بنية سياسية تتكرر فيها العناصر
نفسها: هشاشة مدنية، صعود عسكري، شرعية أيديولوجية عابرة، ثم استبداد طويل،
وانهيار مؤسساتي، وأزمات اجتماعية واقتصادية ممتدة. وفي كل مرة تتكرر التجربة،
تُطرح الأسئلة ذاتها دون جواب نهائي: هل يمكن للجيش العربي أن يتحوّل إلى مؤسسة
مهنية محايدة؟ هل يمكن لمشروع ديمقراطي أن ينجح في بيئة بنيته التكوينية مشدودة
إلى نموذج "المنقذ العسكري"؟ وهل يمكن تفكيك الإرث التاريخي للعسكرة من
دون عملية إعادة تأسيس شاملة لمفهوم الدولة ودورها وحدود سلطتها؟
إنّ خلاصة التجربة التاريخية تشير إلى أن الرهان على العسكر لإنتاج
انتقال سياسي ديمقراطي لا يزال رهانا ضعيف الأساس، لأن منطق المؤسسة العسكرية ـ
كما تشكّل في السياقات العربية ـ يقوم على مركزة السلطة لا على توزيعها. ومع ذلك،
يبقى السؤال مفتوحا: هل يمكن بناء مشروع "دولة مدنية" مستقرة من دون
إعادة تعريفٍ جذري لعلاقة الجيش بالسياسة؟ وهل تكفي الإرادة الداخلية لتحقيق ذلك،
أم أن توازنات الإقليم والعالم تجعل هذه المهمة أكثر تعقيداً مما تبدو عليه؟
*باحث من المغرب