ملفات وتقارير

عندما يصبح "الرّاب" مسرحا للتراشق السياسي.. "عربي21" ترصد المشهد المغربي

مسّت كلمات أغاني الرّاب في المغرب لما وُصف بـ"الخطوط الحمراء"- جيتي
يتناقشون بينهم، في إيقاع مُتباين لمُحاولة فهم خلفيات كل كلمة يسمعونها، فيما يقول أحدهم: "هذا كلاش واعر (رسالة مباشرة للتّعبير عن الواقع المُعاش)"، ويردّ آخر: "أوك بّوز فنان جيد، لكنّني أفضل المورفين"، ليستمر النقاش. شباب يجلسون محاذاة الحي، يُمعنون التّركيز مع صوت يصفونه بـ"المعبّر عن آلامهم وطموحاتهم".

شباب قد لا تتجاوز أعمارهم 16 ربيعا، سألتهم "عربي21" عن المُميّز فيما يستمعون إليه، أجاب أحدهم: "اسمعي هذا المقطع"، فأتت الكلمات كالتّالي: "سايبة سايبة راه الحوز ديجا رايبة، صافي سالا التضامن عرفو الكاميرا غايبة"، ليُقفل الصوت بقول الشّاب المدعو أيمن: "أنت تعرفين أنّ هذا المقطع لوحده كفيل بالتّعبير عن معاناة شعب كامل". 

في هذا التقرير ترصد "عربي21" أبرز المواضيع التي رصدها فنّانو الرّاب بالمغرب، في الآونة الأخيرة، إذ قلب الموازين، وفتح المجال لنقاش سياسي مُحتدم، ودخل أيضا لجُل بيوت المغاربة. وبينما اعتبره البعض أداة للثورة الاجتماعية، رأى آخرون فيه تهديدا للقيم الاجتماعية التي تتوارثها الأجيال. ما القصّة؟



مسّ الواقع المُعاش
"ولد الأطلس عايشها كلاس، ماشي كيف مصوراني دوزيم فـHH (أعيش بعزّ ليس كما يظهرني الإعلام في برامجه) هذه واحدة من الجُمل التي ذاع صيتها، أتت على لسان الفنّان جواد أسرادي، المعروف بلقب: "بوز فلو"، في إشارة إلى ما يُظهره الإعلام الرسمي، عن مُجمل الشباب المُنتمين إلى مناطق الأطلس.

على مواقع التواصل الاجتماعي، رصدت "عربي21" اتّساع فئات المُستمعين إلى أغاني الرّاب، من سياسيين وأساتذة جامعيين، وكذا تزايد اهتمام الصحافيين بهذا النّوع من الفن، بعد أن كان يوصف لسنوات مضت بكونه: "يعبّر فقط عن الفئات المهمّشة".



وقال عضو المكتب السياسي للحزب المغربي الحر، سمير الباز، إنّ: "هذا اللون الموسيقي بات أكثر من مجرد أغانٍ، بل وسيلة تعبير قوية، تعكس واقعنا الاجتماعي والاقتصادي، من خلال الكلمات الجريئة والإيقاعات القريبة من نبض الشارع".

ومن الأمثلة التي مسّت الحياة السياسية بالمغرب، أوضح الباز في حديثه لـ"عربي21" أنّ: "آخر إصدار للرابور بوز فلو، الذي يعكس بصدق وعمق معاناة الشباب المغربي، مزج بين السخط المجتمعي  والسّرد الواقعي للظروف التي يعيشها أبناء هذا الوطن، ما جعل منه صوتًا يعبر عن شريحة واسعة من المجتمع".

وتابع: "حمل رسائل مسّت واقع الشباب المغربي ليس فقط المتأثر بهذا النوع من الموسيقى، بل حتى النّخبة اليوم أصبحت تناقش الرسائل التي تطرق لها، مثل الفقر، البطالة، والبحث عن الهوية والأمل وغيرها، لأن الكلمات تحمل طابعًا نقديًا ولكن بلمسة إبداعية واقعية، تضع المستمع أمام مرآة الواقع دون تجميل".



من جهته، أوضح الصحافي المهتم بالشأن الثقافي، عادل آيت واعزيز: "أعتبر أن الرابور الحقيقي موسوعة ثقافية وكومة من الأفكار والمفاهيم الإنسانية، يسافر بالمُتلقي لعوالمه الخاصة، سواء عبر التطرّق لتجربة حياتية أو ظاهرة في المجتمع..".

وأضاف واعزيز الذي تابع النّقاش الدائر بخصوص فن الرّاب بالمغرب، في حديثه لـ"عربي21": "الرّابرز يُساهمون في الإدلاء بآرائهم حول جل الثيمات بدون استثناء تقريبا: العنصرية، العنف، الفقر، الديكتاتورية، الحب، الاستغلال، الأمراض النفسية، التعليم... كل هذا في قالب موسيقي له خصوصيته من ناحية: الكتابة، الإيقاع، تدفّق النص، ألعاب الكلمات، القوافي".

وكلمة "rap" انبثقت من تزاوج الشعر والإيقاع، إذ أنها اختصار لعبارة Rhythm and Poetry؛ واللحظة الأولى لظهور هذا الفن، كانت سبعينات القرن الماضي، من قلب حي "البرونكس النيويوركي" من المغني الجامايكي kool Herk، الذي قدّم عرضا يعتمد فقط على عبارات غير منتظمة، توجّه بها للجمهور بشكل مباشر وارتجالي، بغية خلق التفاعل والحماسة.

رسائل وسط "البيف" (التراشقات)
"كي حماس اللي جاني فطريقي الله أكبر (مثل حركة حماس لا يقف ظالم في طريقي)" هي جملة أتت بقلب إحدى الأغاني، مسّت عُصفورين بحجر واحد، أدّت غرض "البيف" وهو ما يعني التراشق أو الفتيل الكلامي بين الرّآبورز (فنّانو الرّآب) وسلّطت الضوء أكثر بين الشباب عن حركة "حماس" خاصة في خضم المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي.

وقال واعزيز: "البيف هو مثل الهِجاء في الشعر العربي، لكن هدفه في الراب قد يكون التقليل من قيمة مشاريع الخصم أو مساره الفني، هي حالة خلاف، لكنها لا تعني بالضرورة أنها قد تكون حالة خلاف واقعية"، في إشارة إلى بثّ رسائل مبطّنة للتعبير عن "المسكوت عنه داخل المُجتمع المغربي".

"الكلمات النابية هي ما تجعل الرّابور متحررا من قيود المجتمع وغير متصنع في كتابته. هي انعكاس لتمثلات المجتمع" أبرز واعزيز في حديثه لـ"عربي21" مؤكدا: "الشباب يميلون لثقافة الراب، وقد يكونون غير راضين عن وضع ما، وبالتالي من الصعب عليهم الاهتمام بالموسيقى التي تقول لهم إن كل شيء على ما يرام".

إلى ذلك، فإنّ "البيف" أو التراشقات لم تحتكر فقط بين الرّابورز، بل وصلت إلى شخصيات سياسية؛ بينهم رئيس الحكومة الأسبق والأمين العام لحزب العدالة والتنمية، عبد الإله بن كيران، الذي نعت الرّابور، طه فحصي المعروف بـ"طوطو"، بوصفه بـ"الصّلكوط" وهي كلمة دارجة تشير لـ"الفاسد أخلاقيا". ما أشعل المشهد السّياسي والفنّي على حدّ سواء.

وفيما استنكر عدد من السياسيين وأيضا الفنانين المغاربة، ورواد مختلف مواقع التواصل الاجتماعي وصف بن كيران؛ لم يتأخر رد "طوطو" الذي أكّد عبر بثّ مباشر، وهو يرتدي جلبابا مغربيا ويضع طربوشا تقليديا وفي يوم عيد المولد النبوي الشريف، أنّه: لا ينتمي لأي حزب سياسي، عكس ما يتم تداوله.


القضاء يلاحق "الرّاب"
في عام 2020 قضت إحدى المحاكم المغربية بالسجن لمدة عام، على الرّآبور المعروف باسم: "سيمو الكمناوي"، بسبب أغنيته "عاش الشّعب"، التي وُصفت بـ"المُشاغبة" إذ انتقدت بالأسلوب المباشر: "تردّي الأوضاع المعيشية وتكدّس الثروات لدى فئة معيّنة". 

وبعدها بسنوات، أيضا، عقب شكاوى تقدّم بها ثلاثة فنانين ورجل أمن وصحافي، بتُهم: "السب والقذف والتهديد"، وُضع خلال السنوات الماضية، معاذ بلغوات المعروف بلقب: "الحاقد" والذي اشتهر بأغانيه المنتقدة للسلطة؛ وأيضا طه الفحصي، المعروف بلقب "طوطو"، رهن الحراسة النظرية، في الدار البيضاء.

وعلى الرّغم من سحب هذه الشكاوى، إلّا أن النيابة العامة قد استندت في ملاحقة "طوطو"، وفقا لعدد من الصحف المغربية، إلى تصريحات أدلى بها على هامش حفل أقيم في الرباط، جاء فيها: "نعم أدخن الحشيش وماذا بعد؟"، مستدركا: "لا يعني بالضرورة أنني أمثل قدوة سيئة للشباب". 

جرّاء ذلك، كانت المحكمة الابتدائية بالدار البيضاء، قد قضت، بسجن "طوطو" لـ8 أشهر مع وقف التنفيذ، لإدانته بتهم "السب والتشهير والتهديد" مع غرامة 50 ألف درهم (قرابة 5 آلاف دولار) للمطالبين بالحق المدني. 

الأمر لم يقف هنا، بل استغله سياسيون، حيث وجّه البرلماني المعارض عن حزب "الحركة الشعبية"، محمد أوزين، آنذاك، رسالة إلى رئيس الحكومة المغربية، عزيز أخنوش، ذكّر فيها بأنه سبق أن نبّه "من مغبة التطبيع مع بعض السلوكات الدخيلة على مجتمعنا المغربي، والتي تعد انحرافاً خطيراً وانزلاقاً غير مسبوق.".

وأوضح أوزين، أنّ: "العنف اللفظي من ساحة السويسي في الرباط، تحوّل إلى عنف جسدي داخل فضاء ملعب الراسينغ الجامعي بمدينة الدار البيضاء". مستفسرا رئيس الحكومة، بالقول: "هل ترضيكم هذه الصور عن شبابكم وصورة بلدكم في حفل ترعاه حكومتكم؟".

وتابع: "هل ما تسبّب فيه (فنانكم) من ضرر لحشمة المغاربة لم يكن كافياً لمراجعة برامج تنشيط إحدى وزاراتكم؟ وهل تعتقدون أن توقيت المهرجانات تزامناً مع الدخول المدرسي وبعد العودة من عطلة الصيف هو توقيت موفق في ثقافتكم؟".

كذلك، طالبت المجموعة النيابية لحزب "العدالة والتنمية"، آنذاك، بعقد اجتماع للجنة التعليم والثقافة والاتصال، بحضور وزير الشباب والثقافة والتواصل، لمناقشة: "النموذج الفني والثقافي للوزارة من خلال تنظيم ودعم المهرجانات". 

وأبرزت المجموعة النيابية، أن: "مجاهرة شخص قُدّم لجمهور المهرجان الذي نظمته وزارة الشباب والثقافة والاتصال، بالرباط، على أنه "مغني راب" بتعاطيه للمخدرات شكّل صدمة للرأي العام الوطني".
وأردفت: "هذه الواقعة تطرح علامات استفهام حول النموذج الفني والثقافي الذي تدعمه وزارة الشباب والثقافة والتواصل، وأن الكلام -البذيء- الذي تلفظ به مغني الراب طوطو يعتبر خدشاً للحياء العام، فضلاً عن كونه لا علاقة له بالثقافة وبالفن، ومخالفاً لتوجهات الدستور المتعلقة بالفن والثقافة..".

الرّاب في التلفاز.. هل فقد معناه؟
ولج الرّاب لبيوت المغاربة، عبر نافذة التلفزيون الرسمي، خلال مسابقة فنّية بعُنوان: "جام شو" الذي عُرض على "2M القناة الثانية" لاكتشاف المواهب في فن "الراب"، في ظل تطور هذا النوع الموسيقي، وإقبال الشباب عليه؛ وتكوّنت لجنة التحكيم، من أسماء رسمت ملامح الراب بالمغرب: ديزي دروس وطوطو، انضم لهم عبر حلقات: "دادا"، و"اختك".

وعلى الرّغم من نسبة المشاهدات العالية التي رافقت حلقات المسابقة، إلّا أن مواقع التواصل الاجتماعي لم تخل من الآراء المتباينة بخصوصه؛ بين من قال: "إذا وضعت قيودا رسمية للرّاب فقد معناه"، ومن قال: الكلام النّابي في الرّاب إن حُذف، ضاع المعنى وتاه؛ إذ أنّه من وسائل التعبير عن الغضب الصّارخ للفنّان، جرّاء معالجته لواقع صعب، مُعاش"، ومن قال: "إنها محاولات من السلطة لعقد مصالحة مع الشّباب والتنفيس عن الغضب".


وفي السياق نفسه، الملحن والمغني المغربي، نعمان لحلو، دخل بدوره لقلب موجة التّراشقات مع فنّاني الراب، مُباشرة عقب الكشف عن آرائه، بالقول إنّ: "البعض (الرّابورز المغاربة) حين حاولوا الاتجاه للأغنية، فلم يستطيعوا، ولما أرادوا الرجوع لهوية الراب، لم يستطيعوا أيضا، بالضبط كقصة الغراب الذي أراد أن يقلد مشية الحمامة، فلم يستطع، فلما أراد الرجوع لمشيته الأصلية لم يستطع أيضا".

إلى ذلك، بمواضيع شائكة، وكلمات مُباشرة، يمتزج فيها الكلام الدّارج مع كلمات توصف بـ"النّابية"، مسّت كلمات أغاني الرّاب في المغرب، لما وُصف بـ"الخطوط الحمراء"، وذلك منذ انتشار أغاني: مسلم ودون بيغ وديزي دروس وغيرهم..؛ ما جعله يتحوّل، مع مرور السنوات، من: أغان كانت حكرا على فئة معيّنة إلى إيصال رسائل مبطّنة وأخرى مُباشرة وصادمة. ليتّسع بذلك نطاق المُستمعين.