قضايا وآراء

مصر: السُلطوية ونفي المواطنة عن الجسد السياسي (1)

"أصبح تسجيل أي اسم، كإنسان مصري، ليس بهدف وجوده كمواطن ضمن عقد اجتماعي يحفظ حقوقه، بل كجسد ملك لهذه الدولة"- الأناضول
في المقالات القادمة (4 مقالات)، سنرى كيف استخدمت الدولة المصرية، تاريخيا وإلى الآن، التقنيات الحداثية في إيجاد ونفي أجساد وأسماء المصريين من أجل بقائها وهيمنتها.

قررت محكمة جنايات القاهرة، يوم 24 تشرين الثاني/ نوفمبر من عام 2024، رفع أسماء مئات الأشخاص من قوائم "الكيانات الإرهابية"، في إطار توجيهات رئاسية بمراجعة موقف المدرجين على هذه القوائم تنفيذا لطلبات الحوار الوطني. وفق بيان للنيابة العامة المصرية، شمل القرار نحو 716 شخصا من المدرجين على قوائم الإرهاب من أصل 4408 أسماء أخرى موضوعة على القائمة حتى آب/ أغسطس من عام 2024.

وضعُ أي اسم مواطن مصري على قوائم الإرهاب، يعني تجميد أمواله، ما يعني حظر التصرف فيها، كما يُمنع من السفر ويُترقب عند الوصول، بالإضافة إلى سحبِ جواز سفره أو إلغائه أو يُمْنَع من تجديده، سواء كان مقيما في الداخل أو في الخارج، كما يفقد صفة "حسن السيرة والسلوك" اللازمة لتولي المناصب العامة والنيابية، فضلا عن فقدانه كلّ معاملاته الخاصة به مع الدولة كونه مواطنا مصريا، أي تُسحب منه صفة المواطنة. وهذا ما يعني أنه في يد السُلطوية السياسية في مصر، بعد تطويعها للمنظومة القضائية وتشريعها للمادة رقم 1 من قانون رقم 8 لسنة 2015، في ظل حكم الطوارئ والاستثناء في عهد السيسي، نفي سمةِ المواطنة عن أي مصري تعتبره معارضا لها.

وضعُ أي اسم مواطن مصري على قوائم الإرهاب، يعني تجميد أمواله، ما يعني حظر التصرف فيها، كما يُمنع من السفر ويُترقب عند الوصول، بالإضافة إلى سحبِ جواز سفره أو إلغائه أو يُمْنَع من تجديده، سواء كان مقيما في الداخل أو في الخارج، كما يفقد صفة "حسن السيرة والسلوك" اللازمة لتولي المناصب العامة والنيابية، فضلا عن فقدانه كلّ معاملاته الخاصة به مع الدولة كونه مواطنا مصريا، أي تُسحب منه صفة المواطنة

المواطنة، هذا المفهوم القديم وحتى وقتنا الحالي؛ تطوَّر ضمنَ دلالات وتعريفات عدّة، دلَّت بعضها، ولا سيما الحديثة أي بعد الثورة الفرنسية عام 1789 وأحداث أُخرى، على التعايش المشترك بين الأفراد والجماعات، بما يضمن للجميع الحقوق والحريات، تحت سقف الدولة الواحدة. لكن علاقة هذه الدولة بالجماعات هي علاقة قديمة جدا، حددتها أعراف وقوانين ونظريات متباينة ومتداخلة في ما يعرف بعصر التنوير، تحديدا القرنين السابع والثامن عشر، إذ ساهم مفكرون في صياغة وتطوير نظرية العقد الاجتماعي، أبرزهم توماس هوبز وجون لوك وجان جاك روسو، وخلص الثلاثة إلى أن العقد الاجتماعي بين الدول والجماعات هو ضروري لحفظ الأمن والحريات والحقوق للثانية، بما أن الأولى هي الضامنة لعدم تعدّي أي من فئات الثانية على الآخر، وهذا فيما يخص الدين والاقتصاد والسياسة والحقوق وغير ذلك. من هنا، ومع التطورات الذي لحقتْ بالدول الغربية مثل الثورات الصناعية والانفصالات وترسيمات الحدود، نشأت الدساتير، كعقد اجتماعي، يوثِّق ويحفظ العلاقة بين الدولة والجماعات.

أما في مصر، منذ تاريخها القديم، كانت الإمبراطوريات هي التي تحكم الشعب دون أي عقد اجتماعي مَنصوص ومُتفق عليه بين الطرفين، وتتداول الإمبراطوريات المنتصرة في المعارك حكمها لمصر، وصولا إلى الحكم العثماني الذي جاء بمحمد علي حاكما لمصر أوائل القرن التاسع عشر، فيما اعتبره المؤرخون بداية تاريخ الدولة المصرية الحديثة، لما أحدثه من تقدم "حداثي" في مجالات مختلفة، من حيث العمران والطب والتعليم والصحة، والأهم الجيش، إذ كان بناء الجيش المصري، هو نواة قيام الدولة الحديثة، تحديدا فيما يخص قطاعات الصحة والتعليم.

خلال سنوات حكم محمد علي (1805-1849)، تأسست تقنيات المواطنة بشكلها الرسمي، لا الفعلي، إذ بدأت الدولة المصرية في إحصاء السكان، وتسجيلهم، لا من أجل معرفة بنيويَّة الجماعات المصرية، من حيث اختلافها واحتياجاتها وخصوصيّاتها ومشاركتها في صياغة عقد اجتماعي جديد للدولة، يحفظ بدوره الحقوق والحريات لهذه الجماعات، كما كان يحدث بنسبٍ مختلفة في دول أُخرى.. بل كان التسجيل والإحصاء يهدف إلى توسّع محمد علي في مشروعه، وبنائه على أسس معرفية تحوي تعداد السكان وأعمارهم، وغير ذلك. إذ بدأت السُلطوية الباشويَّة في تجنيد الفلاحين المصريين، لبناء جيشه الحديث (1821)، نواة دولته التي يحلم بتوسّعها وهيمنتها في الجوار. لذا، كانت أهمية إحصاء السكان تكمُن في السيطرة والرقابة على الفلاحين الذين سلكوا كل الطرق والوسائل هربا من التجنيد الإجباري.

في عام 1845، أقرَّت الجمعية العمومية بوزارة المالية المصرية، البدء في تعداد سكان القُطر المصري، فيما عرف بـ"تعداد النفوس". وقد تولى وقام بهذه المهمة مشايخ وعُمَد البلدات والقرى والأحياء، وغيرهم ممَّن وكّلتهم الدولة، وزارة الداخلية تحديدا، بحصر الأعداد. في عام 1848، جُمعتْ تلك القوائم بإجمالي عدد سكان القُطر المصري، وكان قرابة 4 ملايين ونصف مليون نسمة. ومع مجيء الاحتلال البريطاني لمصر عام 1982، بدأ إنشاء السجلات المدنية للدولة الحديثة في مصر، بهدف إحصاء سكاني لمصر أكثر دقة وحوكمة، يساعد الدولة أكثر في المعرفة والضبط والسيطرة على من تحكمهم.

حتى وقتنا الحالي، وفي ظل تحديث تقنيات إحصاء السكان، وبالتوازي، تطورت أهداف هذا الإحصاء، وأصبح تسجيل أي اسم، كإنسان مصري، ليس بهدف وجوده كمواطن ضمن عقد اجتماعي يحفظ حقوقه، بل كجسد ملك لهذه الدولة، تتعامل معه وفقا لأهدافها، تستخدمه وتسخّره وتراقبه وتسجنه وتستبعده، وحتى تُحييه أو تقتله، وغير ذلك من تمثلات متباينة لممارسات الدولة المصرية، عبر أنظمتها المختلفة، الملكية والجمهورية، مع مفهوم المواطنة للمصريين، فكيف حدث هذا، لا سيما في عهد السيسي؟ هذا ما سنراه في المقال القادم.