مساء الجمعة الماضي، نشر الرئيس الأميركي دونالد
ترامب صورة له بالذكاء الاصطناعي، على حسابه الخاص في موقعه «تروث سوشيال» وهو مشابه تماماً لـ»إنستغرام»، يظهر فيها مرتدياً رداء بابوياً أبيض، وبعد نصف ساعة تمت مشاركة الصورة على حساب «إكس» الخاص بالبيت الأبيض، وحدث هذا بعد يومين على رده مازحاً على سؤال صحافي عمّن يتوقعه خلفاً للبابا فرنسيس الراحل، الذي توفي قبل نحو أسبوعين، قائلاً: إنه يرغب في أن يكون هو
البابا، وإن ذلك سيكون خياره الأول.
والحقيقة أن ذلك لم يكن لا زلة لسان على طريقة سلفه جو بايدن، ولا كلمة عابرة جاءت عفو الخاطر، فالرئيس ترامب، الذي أظهر قدراً من الجدية بمشاركته شخصياً في مراسم تشييع بابا
الفاتيكان، رغم ما كان قد ظهر من عدم ود بينهما من قبل، فيما لم يجرؤ فلاديمير بوتين مثلاً على المشاركة في التشييع، بسبب مذكرة المحكمة الجنائية الدولية بحقه، مثله كمثل رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، لكن يضاف أن الأخير، بل حتى إسرائيل بشكل رسمي وقح لم تظهر الاحترام الكافي في تقديم العزاء للفاتيكان، لكن مع أن ترامب سارع للمشاركة في العزاء، إلا أنه لم يسلم من انتقاد اختياره لملابس غير لائقة، حيث شارك في الجنازة مرتدياً بذلة زرقاء وربطة عنق زرقاء لامعة، فيما تفرض القواعد ارتداء بذلة داكنة وربطة عنق سوداء مع قميص أبيض، وحذاء أسود وجوارب سوداء، أي أن ترامب أظهر «قلة» احترام للفاتيكان رغم مشاركته في عزاء البابا الراحل.
وترامب نفسه كان أظهر استياء لم يخفه من نظيره الأوكراني حين استقبله في البيت الأبيض، فسأله بشكل استنكاري عن ملابسه غير الرسمية التي جاء مرتدياً إياها لواشنطن، وأكثر من ذلك، كان قد رد على الصحافيين قبل أيام عمّن يود أن يكون بابا الكنيسة الكاثوليكية المقبل، بالقول: إنه ليس لديه تفضيل معين، لكن هناك كاردينالاً في نيويورك وهو جيد جداً، ويبدو أن ترامب لا يعرف أنه لم يسبق أن اختير أميركي بابا للفاتيكان من قبل، فيما قال مازحاً: إنه يرغب في أن يصبح هو البابا القادم للفاتيكان خلفاً للبابا فرنسيس.
هذا التصريح الذي تكرر عبر «تروث سوشيال»، كذلك ما أثارته من جدل مشاركته في مراسم تشييع البابا فرنسيس، في رحلته الخارجية الأولى خلال ولايته الثانية، توحي وكأنه قد اختار المشاركة في التشييع لإثارة الاهتمام، بأقوال تبدو جدية، أو على الأقل توحي بأن الرجل مشغول بمستقبله بعد انتهاء العام 2028، ذلك أنه إضافة لذلك كان قد أدلى بتصريح يشير فيه إلى تعديل محتمل للدستور الأميركي ليسمح له بالبقاء في البيت الأبيض لولاية ثالثة، حيث سيكون عمره حين ذاك 82 عاما، أي أن ترامب في ولايته الحالية ما بين عامي 2025 و2029 يقضيها وهو بعمر ما بين 78 إلى 82 عاماً، وهو نفس عمر بايدن في ولايته ما بين عامي 2020 و2024، حيث كان بعمر 78 إلى 82 عاماً، والجميع يتذكر كيف كان ترامب يضمّن حملته الانتخابية استخفافاً بخصمه ارتباطاً بعمره، وكان دائماً ما يصفه «بالنعسان» في إشارة إلى بطء ناجم عن تقدمه في العمر.
الحقيقة أن ترامب لا يظهر في ولايته الحالية تقدماً في العمر وحسب، ولكنه يظهر «عنجهية» وغروراً، يصفه البعض بجنون العظمة، وذلك خلافاً لما ظهر عليه في ولايته السابقة ما بين عامي 2016 و2020، وكان حينها بعمر 70 إلى 74 عاماً، كذلك يظهر اختلافاً عن كل الرؤساء الأميركيين بإطلاقه للتصريحات الغريبة، والتي سرعان ما ينساها، ذلك أنها تبدو عابرة ومجرد أوهام، وفي أحسن أحوالها مساومات سياسية، نقصد تلك التصريحات التي أطلقها بمجرد دخوله البيت الأبيض والتي كانت كلها تقول بالسيطرة والضم، على الجيران والحلفاء، القريبين من الولايات المتحدة والبعيدين عنها على حد سواء، من الجارات بنما، كندا والمكسيك، إلى غرينلاند التي تتوسط المسافة بين أميركا وأوروبا، وتتبع الدنمارك والاتحاد الأوروبي بالتالي، وصولاً إلى غزة، و»حلمه العابر» في تحويلها إلى ريفيرا شرق أوسطية، ولكن على جثث أصحابها، بذلك فإن ترامب بقدر ما يثير الجدل في «السوشيال ميديا» يثير العديد من الأسئلة، عما سيحققه من مستقبل لأقوى وأهم دولة في العالم حالياً، بل ما سيفعله بالنظام العالمي الحالي، الذي تقوده أميركا، وهو الرجل الرئيس الذي يتمتع وفق نظام رئاسي بصلاحيات تجعل منه أقوى وأهم رجل في العالم!
والحقيقة أن ترامب لا يمكن اعتباره رجلاً هامشياً، فهو رئيس الولايات المتحدة، وهذا الرجل، سبق له أن استخف كثيراً بخصومه السياسيين في الداخل، أي على الجانب الديمقراطي، لدرجة أنه اتهم كامالا هاريس وهيلاري كلينتون السيدتين اللتين ترشحتا من قبل لمنصب الرئيس، وللمصادفة هما من هزمهما خلال ولايتيه الاثنتين، في حين هُزم حين واجه رجلاً، حتى لو كان ضعيفاً سياسياً، نقصد بايدن، كما أنه واصل الادعاء المغرور لدرجة مقيتة حين كان يتحدث عن الحرب الروسية الأوكرانية بقوله: إنها لم تكن لتقع لو كان رئيساً. وهذا صحيح من جانب، يعني أن الجمهوريين باتوا يعتمدون على دعم رجال الأعمال من مالكي صناعة البرمجيات والشركات عابرة الجنسية، فيما الديمقراطيون يعتمدون على صانعي السلاح، لذلك فتح بايدن الباب للحرب على روسيا، وقدم الدعم المخادع للحرب الإسرائيلية، بينما ترامب رغم أنه يهدد، فإن التقديرات تشير إلى أنه يدفع لإخماد الحروب وعقد الصفقات.
أبعد من ذلك، ترامب صرح بما يثير الضحك وليس الجدل وحسب، وربما يعود ذلك إلى أنه رغم كل ما أرسله من إشادة ببوتين، إلا أن الرئيس الروسي لم يهرول إلى احتضانه وتقبيل رأسه أو وجنتيه، بل على العكس سارع إلى تشديد الهجوم على أوكرانيا، مستغلاً ما أثاره ترامب من إحباط في صفوف مقاتليها وقيادتها على حد سواء، بعد كل ما أعلنه من تراجع عن الموقف الأميركي من الحرب الروسية الأوكرانية، أما تصريح ترامب الأخير المثير للضحك، فكان قوله: إن بوتين يحلم بضم أوكرانيا، لكنه يكتفي بضم ما احتله جيشه منها حتى الآن، بسبب وجود ترامب في البيت الأبيض.. يقول ترامب هذا، وكأنه هو «الغول، أو البعبع « أو حتى «أبو رجل مسلوخة»، المخيف، الذي بمجرد أن يقول كلاماً تجاه الكون كله، فإنها لا تنزل الأرض، وعلى جميع دول وملوك ورؤساء العالم، أن يقولوا: سمعاً وطاعة سيدنا ترامب!
والحقيقة أن كماً هائلاً من التصريحات والقرارات التي قالها واتخذها ترامب خلال مائة يوم فقط، مضت على وجوده في البيت الأبيض، تؤكد أننا إزاء رئيس «هزلي»، يبدو كما لو كان رئيساً جاء بانقلاب عسكري، وأنه أقرب لرؤساء ظهروا على هذه الشاكلة فيما عرف بجمهوريات الموز، ومطلب آخر وليس أخيراً كان من مصر التي وقفت بشموخ ضد خطته بتهجير سكان غزة، ووضع يده التجارية عليها، كان أن تعفي مصر البواخر الأميركية من ضرائب المرور عبر قناة السويس، هكذا بكل بساطة، ولعل أهم ما فعله وأحدث صخباً عالمياً حتى الآن، هو تلك القرارات الخاصة بما سميت التعرفة الجمركية، أو السياسة الحمائية، وتهدف إلى تقوية الاقتصاد الأميركي في مواجهة منافسيه من اقتصادات عالمية، وذلك بمحاولة عرقلة نمو تلك الاقتصادات وليس بتنمية الاقتصاد الأميركي نفسه، وهذا مع إجراءات إيلون ماسك الداخلية، تعني تحديد مسار المستقبل بالنسبة للنظام العالمي.
باختصار يمكن القول: إن صورة أميركا في عهد الرئيس ترامب صورة بائسة، أما قراراته فلن يكتب لها النجاح في كسب الحرب التجارية، وأقل ما يقال إزاءها: إن حرباً تطلق فيها السهام ضد الحلفاء مع الأعداء والخصوم هي حرب خاسرة لا محالة، وإن تعرفة ترامب تشبه إطلاق الرصاص على القدمين، لأنه في ظل العولمة باتت الشركات الأضخم في العالم عابرة للجنسية، ومتعددة الجنسية في الإنتاج والتسويق، وحتى في رأس المال في كثير من الأحيان، ولهذا يظهر ترامب كما لو كان «دون كيشوت» القرن الحادي والعشرين، الذي يحارب طواحين الهواء، بسيف، ويمتطي جواداً جائعاً، في عصر الآلة البخارية.
لذلك، فإن السؤال الأهم بات هو بالأساس كيف وصل هذا الرجل للبيت الأبيض مرتين، في دولة يفترض أنها دولة مؤسسات، تزعمت النظام العالمي منفردة بعد الحرب الباردة وقادت نصف العالم خلالها، والغريب أنها وصلت القمة على أكتاف الغرب الأوروبي، وظهرت كدولة أوروبية كانت لها جذور وصلت أميركا عبر قراصنة البحار والمستكشفين، أكثر مما ظهرت كدولة أميركية لاتينية.