أفكَار

"طوفان الأقصى".. حرب غزة تُخرِجُ حل الدولتين من غرفة "العناية الفائقة"

لقد بينت حرب غزة أن إسرائيل دولة قابلة للهزيمة بوسائل عسكرية فلسطينية محدودة وأن زمن انتصاراتها بحروب خاطفة قد ولى إلى غير رجعة.. الأناضول
هل يمكن حصر مكاسب وخسائر غزة والشعب الفلسطيني عموما، جراء عملية "طوفان الأقصى"؟ من الصعب المغامرة باستخراج نتائج حرب لم تنته بعد، وإن كنت أرجح الخروج منها بخسائر إسرائيلية كبيرة من بينها صورة الدولة المنبوذة والعزلة الدولية وبخسائر فلسطينية مدنية غير مسبوقة (أكثر من خمسين الف شهيد) منذ نكبة العام 1948 وذلك يشمل السكان بفئاتهم العمرية المختلفة  وبينهم نسبة مرتفعة من الأطفال (31 بالمئة) ويصل مجموع الضحايا من النساء والأطفال والمسنين إلى حوالي (70 بالمئة).

وتقدر خسائر القطاع حتى الآن ب 30 مليار دولار تشمل (60 بالمئة من المباني المهدمة و84 بالمئة من المرافق الصحية و92 بالمئة من الطرق و88 بالمئة من المدارس و57 بالمئة من الأراضي الزراعية وأضرار كبيرة في شبكة الصرف الصحي والمياه). أتحدث عن الأضرار التي تكبدها القطاع حتى أواخر شهر آذار ـ مارس عام 2025.

خسائر قياسية

أما خسائر حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى فقد كانت قياسية أيضا إذ استشهد قائدا "الطوفان " يحيى السنوار ومحمد الضيف القائد العسكري الأول، واغتيل رئيس الحركة إسماعيل هنية في طهران. وكان نائب رئيس الحركة صالح العاروري قد اغتيل في ضاحية بيروت الجنوبية، فضلا عن أنجال هنية وأحفاده المقيمين في غزة، وعدد كبير من الكوادر العليا والوسطى، من بينهم مروان عيسى نائب محمد الضيف والرجل الثاني في التراتبية العسكرية، وأحمد الغندور قائد لواء الشمال وأيمن نوفل عضو المجلس العسكري الأعلى وآخرين. وفي حين لا تميز بيانات حماس بين المدنيين والعسكريين في غزة فإن الأرقام الإسرائيلية تشير إلى سقوط عدد من مقاتلي الحركة يقدر بين 10 و12 ألف مقاتل وإن صح هذا الرقم فلربما يكون الأكبر من الشهداء العسكريين، قادة وجنودا في تاريخ الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي.

بالمقابل تمكنت حماس من قتل عدد من القادة العسكريين الكبار في اليوم الأول من "الطوفان" من بينهم العقيد يونان شتاينبرغ قائد لواء ناحال والعقيد روعي ليفي قائد الوحدة متعددة الأبعاد والعقيد أساف حمامي قائد اللواء الجنوبي في فرقة غزة، والمقدم سهار مخاوف قائد كتيبة الاتصالات رقم 481 والمقدم يوناتان تسور قائد استطلاع في ناحال والمقدم عليم عبد الله الذي قتل على الحدود مع لبنان، والمقدم إيلي غنسبرغ ضابط كوماندس بحري وجافيير دافيدوف قائد شرطة النقب. لكن الضابط المقتول الأعلى رتبة هو العقيد إحسان دقسة قائد اللواء المدرع 401 الذي سقط في جباليا، وكان قد سبقه المقدم سلمان حبقة قائد الكتيبة 53 مدرع في جباليا أيضا.

إن سيناريو الخروج من حرب غزة لم يرتسم تماما بعد وأن بنيامين نتنياهو يريد طي صفحة محور الممانعة وختم القضية الفلسطينية بالشمع الأحمر حتى يصبح "ملكا" من ملوك الشعب اليهودي وإسرائيل التاريخية.
الواضح أن الاغتيالات التي نفذتها إسرائيل، على أهميتها وقسوتها، لم تقصم ظهر الحركة التي تمكنت من إيجاد بدائل للقيادات المستشهدة، والمحافظة على إيقاع عملياتها ربما بزخم أقل ولكن بمستوى يحبط العدو ويحرمه من الانتصار بالاغتيالات.

 ومن غير المستبعد أن ترتفع الأرقام الفلسطينية الواردة للتو، تدريجيا، إذا ما استمرت الحرب التي لا شيء يوحي بتوقفها حتى لحظة كتابة هذه السطور في أواخر ـ نيسان أبريل الماضي، على الرغم من عروض جديدة نسبت إلى حماس وتقضي بتخليها عن حكم غزة لصالح إدارة مستقلة ترعاها السلطة الفلسطينية. وثمة من تحدث عن هدنة طرحتها حماس على أن يكون سقفها الأعلى 15 سنة وعن تخزين أسلحة القطاع بإشراف مصري والإفراج عن جميع الرهائن مقابل ضمانات دولية بإنهاء الحرب وإعادة الإعمار.

سيناريوهات الخروج من "الطوفان"

لكن ما هي السيناريوهات المحتملة للخروج من حرب غزة؟

أشرنا للتو إلى السيناريو الذي طرحته حماس للخروج من الحرب. على الرغم من الرفض المباشر من طرف نتنياهو والإصرار على استسلام حماس أو إخراج مقاتليها من القطاع، تلوح مؤشرات حول نقاش هذا السيناريو من طرف الوسطاء، ويتزامن النقاش مع عمليات عسكرية نوعية تنفذها حماس على الأرض للقول بأنها ما زالت قادرة على الرد بقوة وبأن الرهان على استسلامها ليس واقعيا.

مقابل سيناريو حماس تطرح إسرائيل سيناريو واحدا للخروج من الحرب اعتبرته هدفا لحملتها العسكرية الطويلة على القطاع، ويتم التعبير عن هذا السيناريو بعبارات مطلقة: هزيمة حماس. تفكيكها. استسلامها. نزع سلاحها. تحطيم هياكلها. إبعادها عن حكم غزة من دون تسليم القطاع للسلطة الفلسطينية، بحسب شعار نتنياهو الشهير" لا حماسستان ولا فتحستان".

يستدعي هذا السيناريو إعادة احتلال قطاع غزة، وإلى الاشتباك مع مقاتلي حماس والمنظمات الفلسطينية الأخرى داخل الأنفاق وخارجها، لكن النتيجة ليست مضمونة وذلك لأسباب عديدة من بينها أن احتلال القطاع ليس حلا، فهو كان محتلا ولم تتحمل إسرائيل كلفة البقاء فيه فأخلته وأشرف أرييل شارون، وهو من فصيلة نتنياهو، على إخلائه وتدمير مستوطناته.

أما القتال الطويل الأمد في القطاع فهو لا يتناسب مع التعب واليأس المتدرج في تصاعده في صفوف الرأي العام والجيش العبري، وبخاصة جنود الاحتياط وهم القاعدة العريضة للجيش. والملفت في هذا الصدد ليس امتناع آلاف من جنود الاحتياط عن الاستجابة لإعادة التجنيد وطول امد الخدمة غير المعتادة، وإنما أيضا خروج طيارين من أسلحة الجو عن صمتهم وتوقيع عريضة انهاء الحرب وإطلاق الرهائن. أضف إلى ذلك أن طول أمد الحرب معطوفا على انهيارات داخلية، لا يتيح هامشا واسعا للمناورة يحتاجه الجيش الإسرائيلي لتحقيق اهداف ليست مضمونة.

من جهتها تبدو حماس وكأنها أعدت العدة لحرب طويلة من خلال حماية بنيتها التحتية في شبكة أنفاق تحت الأرض يصعب تحديد خرائطها والوصول إليها من دون خسائر كبيرة. أضف إلى ذلك أن الآلاف من مقاتليها سيجابهون حتى الرمق الأخير، إذ لا خيار لهم سوى الاستسلام المميت أو الشهادة وهذا التصميم لا يساعد الجيش الإسرائيلي على تحقيق أهدافه، إذ يقاتل بأسلحة الجو والصواريخ البعيدة المدى وتدمير الوحدات السكنية ويتحاشى الاشتباك المباشر.

 والواضح أن المجتمع الإسرائيلي بدأ هو الآخر يعاني من طول أمد الحرب، ويراهن ليس على المزيد من الحرب، كما تريد حكومة اليمين المتطرف، وإنما على وضع حد لها مقابل إطلاق الرهائن. ويتزايد يوما بعد يوم تحميل نتنياهو المسؤولية عن إطالة أمد الحرب لغرض شخصي، خوفا من حكم العدالة جراء مقاضاته بتهم جنائية أو لتقصيره في هجوم 7 أكتوبر عام 2023، ومن غير المستبعد أن يؤدي طول أمد الحرب إلى المزيد من عزلته. رغم ذلك من الصعب الرهان على سقوطه أو تراجعه خلال أسابيع أو شهور قليلة، خصوصا بعد أن حقق إنجازات قياسية لا سيما بعد إسقاط النظام السوري السابق، وإخراج المقاومة العراقية والمقاومة اللبنانية من الحرب، ودخول أمريكا وبريطانيا مباشرة في الحرب على الحوثيين في اليمن، وحمل إيران إلى طاولة المفاوضات.

الواضح أن الاغتيالات التي نفذتها إسرائيل، على أهميتها وقسوتها، لم تقصم ظهر الحركة التي تمكنت من إيجاد بدائل للقيادات المستشهدة، والمحافظة على إيقاع عملياتها ربما بزخم أقل ولكن بمستوى يحبط العدو ويحرمه من الانتصار بالاغتيالات.
 يمكن لنتنياهو أن يستفيد من هذه الإنجازات ولعلها توفر له الحماية والتغطية لشهور، لكنها لا تمنحه شيكا مفتوحا للقتال في غزة يصعب تحديد أجله وضمان نتائجه، علما بأن طول أمد الحرب يعني قتل المزيد من المدنيين الفلسطينيين والغرق أكثر فأكثر في جريمة الإبادة الجماعية والعزلة الدولية الخانقة.

 السيناريو الثالث للخروج من الحرب يقضي بتهجير سكان قطاع غزة وقد طرحه الرئيس دونالد ترامب الذي تحدث عن فتح أبواب الجحيم على القطاع ونقل سكانه إلى أماكن أخرى وإعادة بناء القطاع بحيث يصبح "موناكو" شرق المتوسط.

" ليتل بيغ هورن" فلسطينية

البادي عندي أن هذا الحل يشبه، في اللاوعي الأمريكي، ما جرى بعد آخر الانتصارات الهندية ضد اليانكي في معركة "ليتل بيغ هورن 1867". فقد توحدت القبائل الهندية في هذه المعركة وألحقت هزيمة شنيعة بالجيش الأمريكي استدرجت حملات عسكرية مدمرة ضد "الهنود الحمر" وحرمانهم من معازلهم الكبيرة وإلزامهم بالاندماج مع الأمريكيين البيض وتعلم لغتهم. في عقل ترامب لا يجوز أن ينتصر الفلسطيني في غارات "طوفان الأقصى" ويجب أن يدفع ثمنا باهظا بحرمانه من أرضه ودمجه في محيطه الأقرب أو في محيط أبعد.

يبدو من الصعب الخروج من الحرب بواسطة سيناريو من هذا القبيل، بل لا تصح هنا عبارة الخروج من الحرب، ذلك أن المطروح هو إخراج الفلسطينيين من فلسطين التاريخية، من غزة أولا ومن الضفة من بعد، وما تبقى منهم يكون مصيرهم كمصير "الهنود الحمر" في الولايات المتحدة وهو أمر يصعب حدوثه لأن المقارنة هنا تتم مع وجود الفارق وبالتالي لا تصح.

بخلاف مصير هنود معركة "ليتل بيغ هورن"، يدور الصراع في قطاع غزة في ظل نظام وقانون دولي لا يجيز الإبادة الجماعية، ووسط رأي عام عالمي مناهض لمثل هذه الجرائم، وقضاء دولي تمكن من تصعيب تنقل نتنياهو في العالم، فضلا عن نظام أخلاقي لا يتيح تغطية جريمة من هذا القبيل، وفضاء عربي لا تتحمل أنظمته نكبة بهذا الحجم. لقد رفض العرب المعنيون إعادة توطين فلسطينيي غزة في مصر والأردن، ورفض عرب آخرون توطينهم في بلدانهم، ناهيك عن رفض أهالي القطاع بغالبيتهم لمشروع التهجير، علما أن إعادة توطين أكثر من مليوني فلسطيني تستدعي كلفة مالية هائلة، تقدر بمئات المليارات من الدولارات، وإن تم ذلك من يمكنه من بعد إيقاف نقل السكان في مناطق أخرى وإعادة توطينهم في أنحاء العالم؟

يبدو واضحا أن حكومة بنيامين نتنياهو التي تحظى بتغطية أمريكية مطلقة، تريد استثمار انتصاراتها في سوريا والعراق وإلى حد كبير في لبنان كما أشرنا أعلاه، ويمكنها أن تستفيد من اختيار إيران التفاوض مع الولايات المتحدة ومن الحديث المرسل عن سحب ضباطها من صنعاء في خضم الحرب.

سقوط النظام السوري

لقد أطاح نتنياهو باتفاق وقف النار مع حماس، بعد سقوط النظام السوري السابق بسهولة غير متوقعة، واغتنم الفرصة لاستئناف الحرب بغياب ردود فعل وازنة على غاراته الوحشية على سوريا ولبنان، ولربما استفاد من انتهاج سياسة خارجية سورية شديدة العداء لحزب الله.

يتيح ما سبق القول إن سيناريو الخروج من حرب غزة لم يرتسم تماما بعد وأن بنيامين نتنياهو يريد طي صفحة محور الممانعة وختم القضية الفلسطينية بالشمع الأحمر حتى يصبح "ملكا" من ملوك الشعب اليهودي وإسرائيل التاريخية.

بانتظار صيغة الخروج من الحرب للحكم على نتائجها النهائية، تتبلور تدريجيا لائحة الخسائر والمكاسب من عملية "طوفان الأقصى" وأبرزها في مجال الخسائر ما أشرنا اليه من قبل حول دمار قطاع غزة من دون توفر إمكانية إعادة بنائه في المدى المنظور.

وفي الخسائر بات واضحا أن محور الممانعة قد أصيب بضربة قاصمة في دمشق التي كانت صلة الوصل بين رأسه في إيران وأطرافه في فلسطين ولبنان والعراق واليمن وسأتطرق إلى مصير الأطراف المذكورة تباعا في مقالات لاحقة.

وإن جاز الحديث عن قواعد اشتباك جديدة فلن تكون لصالح الطرف الغزاوي ولن يتم تعظيم حضور حماس وتحجيم السلطة الفلسطينية كما كان متوقعا في الأيام الأولى للطوفان. وما يدمي القلب أن الحصار الإسرائيلي على غزة قد لا نشهد نهايته في مدى منظور.

لقد بات من الصعب جدا إخراج المسجد الأقصى من دائرة الاعتداءات والانتهاكات الدورية، خصوصا إذا ما انتهت الحرب بخروج حماس من الحكم وتخزين أسلحتها بإشراف مصري. وسيكون على حماس أن تستخلص الدروس المفيدة من عملية "طوفان الأقصى" وأن تعيد تنظيم صفوفها واختيار استراتيجية أخرى في ضوء نتائج الحرب التي باتت شبه واضحة.

أرباح "طوفان الأقصى"

أما أرباح حرب غزة، إن جاز الحديث عن أرباح في ظل مشروع الإبادة الجماعية الذي يديره نتنياهو في القطاع، فإن الأبرز فيها هو إعادة طرح القضية الفلسطينية على الصعيد الدولي بعد أن كاد العالم يتعايش مع المشروع الإبراهيمي لتصفية القضية الفلسطينية وفتح الطرق التي كانت مغلقة امام مشروع الدولتين.
 
لقد أدت الحرب إلى ازدياد عدد الدول التي تعترف بدولة فلسطين (عشر دول) ومن بينها دول أوروبية مهمة، هي إسبانيا والنروج وإيرلندا والسويد وسلوفينيا، ومن المنتظر أن تعترف فرنسا بدولة فلسطين في شهر ـ حزيران يونيو القادم وإن تم ذلك، سيرتفع إلى ثلاثة من أصل خمسة عدد الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن التي تعترف بدولة فلسطين (فرنسا، روسيا، الصين). وقد اعترف نصف أعضاء مجموعة العشرين بالدولة الفلسطينية، ومن المنتظر ان تعترف دول أوروبية أخرى بدولة فلسطين بعد الاعتراف الرسمي الفرنسي.

وقد حصلت فلسطين خلال "الطوفان" على مكاسب جديدة في الأمم المتحدة في قرار اتخذته الجمعية العامة في مايو ـ أيار الماضي، من بينها الجلوس مع الدول الأعضاء في قاعة الجمعية العامة وصار بوسع الوفد الفلسطيني تقديم مقترحات والمطالبة بتعديلات والمشاركة في مؤتمرات أممية والمؤتمرات الدولية مع إمكانية انتخاب أعضاء من وفد دولة فلسطين كمسؤولين في اللجان الرئيسية في الأمم المتحدة.

وفي السياق نفسه، اتخذت محكمة العدل الدولية في تموز ـ يوليو من العام الماضي قرارا باعتبار المستوطنات الإسرائيلية غير شرعية، وطالبت بتفكيكها بأقصى سرعة. وتحدث قرار المحكمة عن نظام الفصل العنصري في إسرائيل والأراضي المحتلة، هذا فضلا عن إصدار مذكرة توقيف دولية ضد نتنياهو باعتباره مجرم حرب مع وزير دفاعه السابق يواف غالانت.

لقد بدأ العالم يدرك بعد حرب غزة أن في جوف القضية الفلسطينية بطن خصب تلد المقاومة تلو الأخرى وأن الحل المفيد يكمن في العودة إلى نظام الدولتين الذي اعتمدته الأمم المتحدة عام 1947 وما زال ساريا حتى يومنا هذا إذ تقره أكثرية مطلقة من 149 دولة في العالم اعترفت بفلسطين من أصل 195 دولة عضوا في الأمم المتحدة.
لقد عادت القضية الفلسطينية بفضل "الطوفان" إلى كل شوارع العالم ومنظماته بعد أن غابت لسنوات طويلة، وذلك إلى حد يمكن القول معه إن حضور فلسطين في العالم ولدى الرأي العام الدولي كان قياسيا. بالمقابل أصيبت إسرائيل بعزلة دولية لم تشهد مثيلا لها منذ تأسيسها وهي ليست بعيدة من موقع الدولة المنبوذة.

ومن مصادفات هذه الحرب أنها أعادت طرح حل الدولتين الذي تتبناه السلطة الوطنية بقيادة الرئيس محمود عباس. لقد برهنت حرب غزة أن القضية الفلسطينية لا يمكن أن تبقى من دون حل وأن المقاومة الفلسطينية لن تموت. لقد ظن العالم أن المقاومة الفلسطينية انتهت بعد انتصار العصابات الصهيونية في حرب العام 1948 لتظهر مقاومة جديدة عام 1965 بزعامة فتح ولتتسع بعد هزيمة حزيران عام 1967. وظنت إسرائيل أن المقاومة الفلسطينية قد انتهت بعد غزو لبنان عام 1982 وخروج منظمة التحرير الفلسطينية من آخر معاقلها العربية، لكن الوقت لن يتأخر حتى تندلع المقاومة الفلسطينية مجددا في الانتفاضات الأولى عام 1988 والثانية عام 2000 وما بينهما وفي هذا الوقت كانت المقاومة اللبنانية قد حررت أراضيها وتحولت إلى شريك عربي مهم لحماس التي سيطرت على قطاع غزة عام 2007 وأطلقت المقاومة المسلحة مجددا ضد إسرائيل وتشكل حولها محور المقاومة.

لقد بدأ العالم يدرك بعد حرب غزة أن في جوف القضية الفلسطينية بطن خصب تلد المقاومة تلو الأخرى وأن الحل المفيد يكمن في العودة إلى نظام الدولتين الذي اعتمدته الأمم المتحدة عام 1947 وما زال ساريا حتى يومنا هذا إذ تقره أكثرية مطلقة من 149 دولة في العالم اعترفت بفلسطين من أصل 195 دولة عضوا في الأمم المتحدة.

قد يصاب نتنياهو بداء العظمة بعد خسارة محور الممانعة، لكنه سرعان ما سيجد أمامه حل الدولتين للخروج من عزلة دولته العالمية وللخروج من هزيمة أخلاقية غير مسبوقة جراء حرب الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني. ولعل نتنياهو يدرك أن حرب غزة كادت أن تطيح به وبدولته لولا التدخل الأمريكي المباشر وتوفير الحماية المطلقة على الصعيدين، الدولي بمنع إدانتها وتحويلها إلى دولة منبوذة كجنوب إفريقيا وعلى الصعيد المحلي عبر الاشتراك في الحرب مباشرة بوسائط التخطيط والمراقبة وإدارة الحرب والمساعدات الاقتصادية والتسليح والاشتراك المباشر في الغارات الحربية بخاصة في اليمن.

لقد بينت حرب غزة أن إسرائيل دولة قابلة للهزيمة بوسائل عسكرية فلسطينية محدودة وأن زمن انتصاراتها بحروب خاطفة قد ولى إلى غير رجعة وأن بقاءها في العالم العربي لا يتم من دون حل الدولتين الذي صار يحظى بإجماع العالم بعد حرب غزة.

يبقى أن المفارقة الأبرز في هذه الحرب تكمن في أن حماس صاحبة مشروع تحرير فلسطين "من البحر إلى النهر" ورفض  اتفاق أوسلو، حماس التي طردت السلطة الفلسطينية من غزة وصارت منافسها وخصمها الأبرز، شنت حرب "طوفان الأقصى" التي صبت الماء في طاحونة السلطة الفلسطينية ومشروع حل الدولتين، هذا الحل الذي باتت حماس أقرب إلى تبنيه إذ شكر أحد قادتها فرنسا على نيتها تنظيم مؤتمر في حزيران ـ يونيو المقبل في الأمم المتحدة  يطرح على العالم مجددا حل الدولتين مصحوبا بالاعتراف بالدولة الفلسطينية وسيكون الاعتراف الأوروبي الأهم حتى الآن.

*باحث في أكاديمية باريس للجيوبوليتيك