أوهام محببة
لا تدري أتضحك أم تبكي أم تصف إحساسك بالأسى أو هو إحساس سلبي وكفى؛ وأنت
تتصفح مقالات مكتوبة بإسهاب تفتقر إلى لمسات أي من العلوم المتعلقة بأحداث
منطقتنا، لا أقول ألّا يكتبها مختصون لأن هذه الحالة الاختصاص يؤطرها وحسب، لكن من
يصفها هو إنسان المعاناة ومن يشخصها هو المثقف، وقد يعطي من الحلول ما تحتاج لحلول،
فعقلية الأماني والتقديس لكل ما هو لا يمت للواقع بصلة هي السائدة، وقومنا في
منطقة التصادم التي نعيش فيها لهم حالات:
- إسلاميون يحبون الإسلام ويسد إحساسهم الغريزي، متعلقون
بالماضي التليد لا يفكرون في واقعهم أو يستنبطون حلا، فإن حاول أحد أن يستنبط ويأتي
بقراءة جديدة؛ إن لم يكفّروه سفّهوه وذهبوا لاعتبار ظهوره بالجديد وكأنه مثلمة وإهانة
للأوائل وخروج عن العلم وأساليبه وقواعده التي وضعت ذاك الزمان. فهناك أناس
اجتهدوا لعصرهم وتأثروا بما في عصرهم من علوم، وكل شيء تطور وتغير ولا بد من
التغيير، والكل يقول لا بد من التغيير لكن لا يُسمح بالتغيير.
ولعل من أسباب هذه الحدة أن بعض أنصاف المثقفين أو من ليس لهم علم في أسلوب
الطرح، يهاجمون الدين وهم يريدون القول إن العلماء القدامى ليسوا الدين وإنما ذلك
كان اجتهادا لزمن والزمن تغير، لكن لا يملكون الحجة ويخافون التسفيه فيطرحون الأمر
بشكل عدواني فيحتجون بسفاهة تلتقي مع التسفيه في الصِدام فيضيع العلم، فلا هؤلاء
يسمعون ويتبعون ولا أولئك يسمعون فيهتدون. وهكذا ستضيع المعايير ليبرز أناس باسم
الدين يفعلون كل ما نهى عنه الدين ويبقون متمسكين به دعاة إلى الإلحاد والتفسخ
بسلوكهم وتيههم كنموذج فاشل متخلف، والصالح عاجز لأنه لا يبحث عن الصواب خشية من
فكرة العيب في تبديل الانتماء والموقف، وهو أصلا ضد ما أراد الإسلام أن يضعه في
المجتمع من نكران القديم والاتباع الأعمى للأجداد.
- بقيت الشيوعية وهي أصلا لم تتحقق في موطنها، وانهار
حلمها بانهيار الخطوة الأولى من الاشتراكية، ومع هذا بقي تشوه بشري وفكري وتيه
وحيرة، تحوّل لعقبة ضد الوصول إلى مجتمع أفضل غالبا نتيجة هجومهم
على أية فكرة مخالفة
- والآن نرى الرأسمالية وآلياتها في حالة عجز وفشل مع فقدان
البديل، فيظهر من يبرر تشذيب الليبرالية بدواعي الأمن والتخويف، وربما ما يجري
أحيانا من أحداث أمنية قد تكون من صناعة مؤسسات أنشئت على الوهم كمؤسسات مكافحة
الإرعاب وهو من صناعتها، كما هو منشور في وسائل الإعلام واعترافات رؤساء كالرئيس
الأمريكي الذي يرى من سلوكيته أن ينقض الآليات الرأسمالية لتتحول القوة مباشرة
لرئيسها، وهو نقض للدولة الويستفالية التي استمرت منذ 1658. ويمكن أن تمتد
العنجهية والطغيان كذلك بالعقلية الإمبراطورية في فرض أي شيء على العالم، فهي تتصور
أن القوة تحسم الحروب بينما تفهم عندما ترى أن القوة تدمر فقط لكن لا تُسقط
التحديات؛ وأن زرع الشر ليس كاستئصاله، وقد يكون الشر دولة كذلك الإرعاب.
خطاب المكونات:
عندما ثار الناس بدوافع السلطة والمال وتلبسوا بلبوس القومية ضد إخوة الدين
لإعانة المحتلين، ولا شيء إلا وعود، وليهب المحتل ما لا يملك لمن هو أصلا المالك
الذي ستنتصر شرعيته فلا يعود يملك، وهو مشهد يتكرر حتى أصبح مطلبا اليوم ولكن بلا
دراسة أو رؤية، كل ما في الأمر أني ظُلمت وأحل محل الظالم لأنتقم. وتعاظم خطاب
الوحدة الاندماجية المبني على الشعبوية وفشلت عمليا الوحدة وأضحت الاتهامات بدل
الفكرة وبقيت الفكرة على اللسان وهي ميتة كما الشيوعية وكما الليبرالية
والديمقراطية، وهي في رحلة الانحدار اليوم تحول الخطاب إلى المكونات وتشرّب به من
بيده السلطة من متعدد المكونات، وهذا أيضا كلام متداول وواقعا فلا سلطة للمكونات،
ومع هذا ولأن الوضع مريح لمن بيده السلطة فهو يقدمه كمشروع حل، بدل الوحدة
المجتمعية والتعايش الموجود أصلا بين الناس. وهم يريدون أن تكون حياتهم سلسة وليس "إني
افضل أن أكون عبدا لأحد أفراد مكوني وأكره الحرية مع غيره"، هذا أيضا حبل
قصير مهما امتد.
العالم بحاجة إلى إنقاذ
مع فشل النظام المبني على تقسيم الشعب وليس توحيده يبقى هو نموذج المستفيد
الذي يأخذ ولا يقدم، كل ما عليه إثارة العصبيات ليبقى دون أن يقدم برنامجا أو رؤية
أو خدمة، وهو يقر بالفشل ولكن ليس مستعدا لمغادرة موقعه الذي سبب الفشل بل يلوم
الفشل والفساد بصيغة المبني للمجهول.
هذه كلها أوهام تعيش على أوهام بغياب العدل والقيمة الآدمية، لكنها مثالية
لمن يرى أن وجوده إنجاز وأن نجاحه بفشل الآخر وليس لتقديمه شيئا بل لم يفكر أن
يقدم شيئا، غاية أمنياته أن يصل لما هو فيه وقد وصل وسيبقى في منظومة تنمية
التخلف، لأن الجهالة التي ترعى الجهل وتمجد التخلف بيئة للفساد لا للتطور
والتنمية.
كذلك من يرى عظمة دولته بالهيمنة وفرض القوة وسلب الآخرين وامتصاص ثرواتهم
هو متراجع لنظام الصراعات الأليم الذي لا يدوم، أو عودة إلى نظام الأباطرة في
استلال ما يرى أنه حق بالموت والدمار.
أما إن أراد ترامب أن يكون كقيصر بورجيا، فليخف الشعب، ويفكك المؤسسات
كنظام وليس هياكل، ويحتوي النظام القضائي، وبدايته بالتعليم مسلك خطأ، رغم أن
إحاطة نفسه بالمرايا البشرية خطوة متقدمة لكن لا تكفي.
العالم كله كما نرى متجه إلى التخلف في النظم والعلاقات
الهابطة التي عرضناها، ولا بد للعالم من إنقاذ فان مدنية بلا حضارة فكرية أخلاقية،
لا تفعل للإنسان أكثر من اخذ السيف والرمح من يده ووضع الصاروخ والقنابل المدمِرة
بدلا منها، فتمدن
الهمجية هو تطور الوسائل وتخلف الفكر.