كتاب عربي 21

ردوا اعتبار ابن بطوطة

جعفر عباس
ردّوا الاعتبار لابن بطوطة وسائر الأسلاف الذين رادوا سوح العلم والمعرفة، ليلهموا الناشئة، علّهم ينصرفون قليلا عن تيك ـ توك ويوتيوب، ويبحثون عن المعارف في مظانِها.
ردّوا الاعتبار لابن بطوطة وسائر الأسلاف الذين رادوا سوح العلم والمعرفة، ليلهموا الناشئة، علّهم ينصرفون قليلا عن تيك ـ توك ويوتيوب، ويبحثون عن المعارف في مظانِها.
ما من عربي راشد، نال ولو حظا بسيطا من التعليم، إلا وهو يعرف ابن بطوطة، ولكنها معرفة من شاكلة معرفة معظم العرب بـ"وعد بلفور"، يعني مجرد طراطيش كلام عام: شخص ما اسمه بلفور يرجح أنه بريطاني، وعد اليهود بدولة على أرض فلسطين، فكُل، أو جُل ما يعرفه العربي عن ابن بطوطة، هو أنه ساح في عدد من البلدان، بل كثيرا ما يكون تشبيه شخص ما بابن بطوطة من باب المعايرة: ليش ما تستقر على حال، بدل ما أنت رايح جاي مثل ابن بطوطة. وقد يحظى أحدهم بمسمى ابن بطوطة، لأنه في اليوم المعلوم ذاك، غادر مكان العمل وذهب الى المستشفى، ثم الى السوق، ثم الى المطار، ثم الى بيت الجد، ثم الى النادي الاجتماعي، إلخ.

ثم ارجع البصر، وانظر سيرة كرستوفر كولمبس، الرجل الإيطالي الذي ما زالت شهرته تطبق الآفاق، باعتبار أنه مكتشف أمريكا، وفي الثقافة الأوربية، فإن أي بقعة تطؤها قدم أوربي للمرة الأولى تعتبر اكتشافا جديدا، وهكذا تتحدث كتب التاريخ عن اكتشاف منابع النيل وجبال الأنديز وغيرها، التي ظلت موجودة وحولها أقوام شادوا حضارات باذخة، منذ مئات الآلاف، وربما الملايين من السنين.

هذا الكولمبوس كان بحارا طاف بالسفن موانئ أوربا لحساب من يدفع، أي أنه لم يحل بأرض من باب حب الاستطلاع والمعرفة، كما فعل ابن بطوطة، ولأنه كان مسيحيا كاثوليكيا متشددا، فقد نجح في إقناع ملكي إسبانيا الكاثوليكيَيْن، فرناندو (أراغون)، وإيزابيلا (قشتالة)، بأنه يستطيع العثور لحركة الملاحة الأوربية الى الهند على مسار لا يمر بأراضي "المحمديين"، كما أسمى المسلمين، وهكذا اتجه بسفينته غربا، مستعينا بخرائط أعدها المؤرخ العربي الحسن بن علي المسعودي الهذلي (ولا على كولمبس أن الأخير مسلم، أو محمدي كما في قاموس أوربا وقتها)، وكان من أوائل من قالوا بكروية الأرض. ثم رست سفينته على الشاطئ الشرقي لما صار يعرف بأمريكا/ الولايات المتحدة، وحسب أنه بلغ مكانا ما في الشرق الأقصى، ولما بَانَ خطل ذلك الحسبان، تم إطلاق مسمى الهنود على سكان أمريكا الأصليين.

قليل من المستكشفين والرحالة من جميع الأجناس في قامة محمد بن عبد الله بن محمد ابن مدينة طنجة المغربية، المعروف بابن بطوطة، وما ميّزه عن نظرائه، أنه نال حظا كبيرا من التعليم، ودرس الشريعة والأدب على أيدي علماء أجلاء، وانطلق في الرحلات التي خلّدت اسمه بعد أداء فريضة الحج، ثم شرع في أسفار دامت أكثر من 30 سنة
فشل كولمبوس في المهمة الأساسية، ألا وهي إيجاد طريق بحري إلى الهند، ومع هذا نال حظا من الشهرة لم ينله قبله ولا بعده واحد من عشرات المستكشفين، وهناك مدينة أمريكية تحمل اسمه، وهناك أيضا مقاطعة كبيرة في كندا (كولمبيا البريطانية) تحمل اسمه. واستحق هذا "الفاشل" التمجيد وتخليد الذكر، لأن إنجازه الأكبر هو أنه عبَّد الطريق للبعثات الاستعمارية الأوربية كي تتجه غربا، وتستعبد شعوب الأمريكتَيْن وجزر الكاريبي، وفي اليوم ال14 من تشرين أول/ أكتوبر من كل عام تحتفل الولايات المتحدة بما يسمى بيوم كولمبس، وسيرة كولمبس مادة الزامية في المدارس الأمريكية، ولو سألت أمريكيا اليوم ماذا يعرف عن سانتا ماريا، فسيقول إنها السفينة التي أتى بها كولمبس إلى بلاده، ولن يقول ـ ربما لجهله ـ إنها القديسة العذراء باللغات الإيطالية والاسبانية والبرتغالية.

ولو كان كولمبس يتمتع بمزعة من الحياء، لتكتّم على خيبته وفشله، وعاد إلى كفيليه في إسبانيا معتذرا، ولَمَا عرف الأوربيون بأمر الأراضي الجديدة ليهاجروا اليها ويقيموا دولة شرسة عدوانية، تحشر أنوف وسيوف جنودها في أجناب شعوب جميع القارات.

في مستهل القرن الثالث الهجري وما تلاه، راقت لعدد من العرب والمسلمين فكرة التّجوال في بلاد الله الواسعة، تأسيا بقوله تعالى، "قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"، ليس طلبا لمال أو شهرة، بل إشباعا لشهوة المعرفة، وغريزة حب الاستطلاع، و ليروا ما بها من أعاجيب، فساحوا وجالوا هنا وهناك. وبعكس كولمبوس دونوا مشاهداتهم، ووصفوا تضاريس وطبيعة حياة الشعوب التي احتكوا بها، وتركوا للبشرية كنوزا ضخمة من المعارف، واعترف الأوربيون بجمائلهم تلك، بينما مناهج التعليم ما دون المرحلة الجامعية "التخصصية"، في العالم العربي/ الإسلامي، لا تأتي على ذكر الشريف الإدريسي، أو ابن جبير الأندلسي أو الحسن الفزان الفاسي، أو أحمد بن فضلان البغداي، الذي ألهمت تجارب رحلاته رواية "آكِلة الموتى" وفيلم “المحارب الثالث عشر (The 13th Warrior) بطولة كل من أنتونيو باندرياس، في شخصيةَ ابن فضلان، والممثل العربي عمر الشريف في دور المترجم.

وقليل من المستكشفين والرحالة من جميع الأجناس في قامة محمد بن عبد الله بن محمد ابن مدينة طنجة المغربية، المعروف بابن بطوطة، وما ميّزه عن نظرائه، أنه نال حظا كبيرا من التعليم، ودرس الشريعة والأدب على أيدي علماء أجلاء، وانطلق في الرحلات التي خلّدت اسمه بعد أداء فريضة الحج، ثم شرع في أسفار دامت أكثر من 30 سنة، زار خلالها مصر والسودان والشام والحجاز والعراق وفارس واليمن وعمان والبحرين وتركستان وما وراء النهر وبعض الهند والصين وسيلان (سريلانكا اليوم) والبنغال والمالديف والفلبين وإندونيسيا، ودوّن تجربته تلك في كتاب "تحفة النُّظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار"، الذي تمت ترجمته إلى البرتغالية والفرنسية والإنجليزية والألمانية.

لم يكن الكتاب "التحفة" مجرد تدوين خواطر مسافر، بل كان وصفا دقيقا لأحوال العالم الإسلامي في العصور الوسطى. ولشبكات التجارة الواسعة والتبادلات الفكرية والتفاعلات الثقافية، التي ميزت تلك الحقبة. ولهذا عكف المستشرقون على دراسة محتوياته، لدسامة ما فيه من معلومات في مجالات الجغرافيا والتاريخ والأنثروبولوجيا والثقافات.

ثروة بتلك الضخامة والدسامة، يتم استثمارها في دور العلم في الغرب، ولكن ولأنه لا كرامة لنبي في وطنه، كما جاء في الإنجيل، فإنه لا حظ لابن بطوطة وكتابه في العالم العربي والإسلامي، رغم أنه عالم يعيش على سنام الذاكرة، وليس له سوى التباهي بأن الأسلاف أعطوا أهل أوربا أدوات التنوير والمعرفة التي أخرجتهم من ظلمات القرون الوسطى، الى أنوار العلم والاكتشاف والاختراع.

ردّوا الاعتبار لابن بطوطة وسائر الأسلاف الذين رادوا سوح العلم والمعرفة، ليلهموا الناشئة، علّهم ينصرفون قليلا عن تيك ـ توك ويوتيوب، ويبحثون عن المعارف في مظانِها.
التعليقات (0)