قضايا وآراء

هل يغيّر اعتراف بريطانيا وكندا وأستراليا بفلسطين قواعد اللعبة السياسية؟

محمد الشبراوي
"الاعتراف يحمل وزنا دبلوماسيا يختلف عن التأييد الإعلامي أو الدعم الإنساني"- إكس
"الاعتراف يحمل وزنا دبلوماسيا يختلف عن التأييد الإعلامي أو الدعم الإنساني"- إكس
في لحظة مشبعة بالتوتر الإقليمي، ووسط حرب لم تضع أوزارها بعد على غزة، أعلنت ثلاث من كبريات دول الكومنولث: بريطانيا وكندا وأستراليا، عن اعترافها رسميا بدولة فلسطين، في تحوّل سياسي اعتُبر تاريخيا من حيث التوقيت، والفاعلية، وربما النية المضمرة خلف القرار.

الاعتراف ليس مجرّد "بيان تضامن"، بل يُعد خطوة تمثل تحولا نوعيا في موقف دبلوماسي ظل لعقود مشروطا وغامضا، أو مؤجلا.

ومع أن الأسئلة تتقافز سريعا حول قيمة هذا الاعتراف، وهل من الممكن أن يغير شيئا على الأرض، فإن محاولة الإجابة تستدعي تفكيك السياق، وقراءة التحولات، وفهم جدوى هذه الخطوة ضمن مشهد دولي متغير.

ماذا وراء الاعتراف بدولة فلسطين؟
الاعتراف لم يكن نتيجة حوار سياسي عقلاني فحسب، بل استجابة لأزمة أخلاقية بات من العسير تجاهلها. وبالنظر إلى هذا الاعتراف كأداة سياسية، فإن السؤال المطروح هو: هل يحمل فعالية قانونية؟

أن تأتي هذه الخطوة من دول تنتمي للحلف الغربي التقليدي، ومن شركاء استراتيجيين لإسرائيل عبر التاريخ، فذلك بحد ذاته يُعد تصدّعا في الإجماع الغربي المساند لإسرائيل بشكل غير مشروط. فقد أعلنت الحكومات الثلاث -في بيانات متزامنة- أن "حل الدولتين هو السبيل الوحيد لتحقيق سلام عادل"، مع التأكيد على دعم الحقوق المشروعة للفلسطينيين وضرورة إنهاء الاحتلال.

لكن لنتوقف هنا قليلا، فالتوقيت ليس بريئا. فقد جاء الاعتراف في ظل حرب تُعدّ من أكثر الحروب دموية على غزة، حيث تجاوز عدد الضحايا المدنيين أكثر من 64 ألفا حتى لحظة كتابة هذا المقال، وفق أرقام فلسطينية وأممية. هذا الواقع الإنساني الضاغط أعاد توجيه البوصلة الأخلاقية والسياسية في العواصم الغربية، خاصة مع تنامي الاحتجاجات الشعبية والمطالبات الحقوقية.

بلغة أدق: فإن الاعتراف لم يكن نتيجة حوار سياسي عقلاني فحسب، بل استجابة لأزمة أخلاقية بات من العسير تجاهلها. وبالنظر إلى هذا الاعتراف كأداة سياسية، فإن السؤال المطروح هو: هل يحمل فعالية قانونية؟

الاعتراف بدولة فلسطين من هذه الدول يضيف إلى رصيد الاعتراف الدولي (والذي بلغ حتى أيلول/ سبتمبر 2025 ما يقارب 150 دولة من أصل 193 عضوا في الأمم المتحدة) ليعزز الموقع القانوني لفلسطين على الساحة الدولية.

هذا الاعتراف يحمل وزنا دبلوماسيا يختلف عن التأييد الإعلامي أو الدعم الإنساني. فعندما تعترف دولة مثل بريطانيا -وهي عضو دائم في مجلس الأمن- بدولة فلسطين، فإن ذلك -لا شك- يفتح المجال أمام تحولات عملية، مثل المطالبة بحقوق الدولة الفلسطينية في المنظمات الدولية، وتقوية موقف الفلسطينيين في المحاكم الدولية (كالمحكمة الجنائية الدولية)، وتعزيز القدرة على توقيع اتفاقيات دولية كدولة معترف بها.

لكن، من ناحية القانون الدولي، يظل السؤال قائما: هل الاعتراف كافٍ لإنشاء الدولة فعليا؟ الإجابة: لا. فوجود الدولة لا يُختزل في الاعتراف فقط، بل في ممارسة السيادة والسيطرة على الأرض والشعب والحدود. وهذه الممارسات حتى الآن تظل ناقصة أو شبه معدومة في الحالة الفلسطينية، بفعل الاحتلال الإسرائيلي والشرخ السياسي الداخلي.

من مدريد إلى أوسلو.. والآن؟ رمزية الاعتراف بعد ثلاثين عاما

الاعتراف الجديد بدولة فلسطين يُعيد إحياء النقاش حول حل الدولتين الذي بدأ مع مؤتمر مدريد عام 1991، وترسّخ في اتفاق أوسلو عام 1993، ثم تآكل تدريجيا بفعل توسيع المستوطنات، حيث وصل عدد المستوطنين إلى أكثر من 750 ألفا في الضفة الغربية حتى 2025، واستمرار الحصار على غزة، وتغيّر الحكومات الإسرائيلية نحو اليمين الديني والقومي المتشدد، وتعطّل مفاوضات السلام منذ أكثر من عقد.

فهل يمكن لاعتراف الدول الثلاث أن يمنح حل الدولتين قبلة الحياة بعد دخوله في غيبوبة طويلة؟ هذا هو الرهان الكبير. ومع أن كثيرين يرون في القرار خطوة رمزية، فإن الرمزية أحيانا تخلق وقائع إذا ترافقت مع ضغط دبلوماسي، وتفعيل أدوات القانون الدولي، ودعم تنموي حقيقي.

وفي إطار لعبة القوة الناعمة، هل هذا القرار أخلاقي أم مجرد حسابات استراتيجية؟ لا يمكن عزل القرار عن التحوّلات في المزاج الغربي، وخاصة في مجتمعات الدول الثلاث، حيث شهدت خلال العامين الماضيين تصاعدا ملحوظا في التعاطف مع الفلسطينيين، واحتجاجات طلابية، ومعارضة صريحة للعدوان الإسرائيلي.

وفي الوقت نفسه، بدأت هذه الدول تدرك أن الدعم الممنوح للاحتلال الإسرائيلي بات مكلفا سياسيا وأخلاقيا. فالسكوت عن الانتهاكات الإسرائيلية الصارخة لحقوق الإنسان، والقوانين الدولية، في ظل الضغط الإعلامي ووسائل التواصل الاجتماعي، لم يعد خيارا مستساغا.

لذلك، يمكن اعتبار اعتراف الدول الثلاث في إطار محاولة إعادة تموضع استراتيجي، يهدف إلى ترميم الشروخ التي أصابت صورة الغرب في العالم الإسلامي، واستعادة الثقة في التزام دوله بالقانون الدولي، وتقليل الفجوة بين خطاب الحقوق المعلن وواقع الممارسة الفعلية على الأرض.

تحديات وعراقيل

لا شك أن هناك تحديات قادمة في الطريق، حيث تكمن العديد من العراقيل. فرغم الزخم السياسي، يواجه هذا الاعتراف ثلاث معضلات مركزية:

أولا: الواقع الجيوسياسي المعاكس، فإسرائيل رفضت القرار بشدة، واعتبرته "مكافأة للإرهاب"، في حين أبدت الولايات المتحدة تحفظها، معتبرة أن الاعتراف الأحادي قد يُقوّض جهود السلام. وهذا يعني أن هناك فيتو أمريكيا غير معلن على أي تغيير عملي على أرض الواقع، وأن الضغط سيظل محدودا في ظل الدعم الأمريكي لإسرائيل.

ثانيا: الانقسام الفلسطيني الداخلي، حيث يتطلب الاعتراف شريكا فلسطينيا موحدا، قادرا على تمثيل الدولة. لكن الانقسام بين فتح وحماس، وضعف السلطة، وتآكل الثقة الشعبية، يجعل من الاعتراف مجرد خطوة في فراغ سياسي.

ثالثا: اشتراطات الدول الثلاث، حيث لم يكن الاعتراف مطلقا، بل هناك شروط، منها الدور المستقبلي لحماس، والإصلاح الداخلي، وإجراء الانتخابات، وضمان عدم مشاركة التنظيمات التي تُعتبر إرهابية في الحكومة الفلسطينية. هذه الشروط، في حال عدم الوفاء بها، فإن الاعتراف قد يُستخدم كورقة ضغط داخلية فلسطينية، وقد يؤدي إلى مزيد من الانقسام لو وُجدت خلافات حول التزام تلك الشروط.

لكن ما هي السيناريوهات المحتملة، وإلى أين يمكن أن تصل هذه الخطوة؟ إذا افترضنا أن الاعتراف لم يكن نهاية المطاف، بل مجرد نقطة تحوّل، فإن السيناريوهات المطروحة متعددة على النحو التالي:

أولا: سيناريو التعزيز التدريجي، حيث تلي الاعتراف خطوات عملية كفتح سفارات، ودعم مشاريع تنموية، والمطالبة بتجميد الاستيطان. هذا يتطلب تنسيقا فلسطينيا عاليا ودعما دوليا متزايدا.

ثانيا: سيناريو الجمود السياسي، وهذا يعني أن الاعتراف يُحتفى به مؤقتا، ثم يُفرغ من مضمونه في ظل غياب أدوات التنفيذ والضغط.

ثالثا: سيناريو المواجهة الدبلوماسية، إذ إنه لا شك أن إسرائيل ستصعّد دبلوماسيا، وربما أمنيا في الأراضي المحتلة، وتُحبط أي تحرك دولي لصالح فلسطين، بدعم أمريكي. في هذه الحالة، قد تتحوّل الخطوة إلى مجرد أزمة جديدة تُضاف إلى مشهد معقّد أصلا.

وبناء على ما سبق، كيف يمكن استثمار الاعتراف بدلا من الاكتفاء بتأريخه؟ لكي يُستثمر هذا الاعتراف فإن هناك حاجة لاتخاذ الخطوات التالية:

الاعتراف، بكل ما يحمله من رمزية، لا يُغني عن بناء الدولة ذاتها. فالدولة تُبنى على الأرض، لا في بيانات السفارات. والاعتراف الخارجي يحتاج شرعية داخلية، وإرادة سياسية، وعملا دؤوبا. ربما يكون الاعتراف مجرد بداية، لكنه بداية لا يجب التفريط بها

1- إنشاء آلية دولية لمتابعة الاعتراف عبر لجنة من الدول المعترفة والأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، ومنظمات حقوق الإنسان الدولية. لكن لا زال مجلس الأمن تحت تأثير الولايات المتحدة، التي من المحتمل أن تمنع أي قرار جوهري يعترف بفلسطين كعضو كامل في الأمم المتحدة بدون التنازلات التي تُرضي إسرائيل.

2- إجراء انتخابات فلسطينية شاملة تعيد الشرعية للمؤسسات، وتوحّد الجبهة الداخلية، وتمنح الاعتراف مصداقية أكبر.

3- دعم تنموي لبناء مؤسسات وخدمات وتحقيق عدالة اجتماعية.

4- ضغط دبلوماسي على إسرائيل لوقف السياسات التي تقوّض حل الدولتين، وفرض عقوبات إن لزم الأمر، خاصة فيما يتعلق بالاستيطان.

5- مبادرة عربية وإسلامية داعمة تعزز الاعتراف بخطوات سياسية واقتصادية، تناسب الواقع الجديد.

يعد الاعتراف.. ماذا تغير فعلا؟

عندما يُقال "دولة فلسطين"، ماذا يتغيّر فعلا؟ إن يُكتب اسم "دولة فلسطين" على وثيقة رسمية لبريطانيا أو كندا أو أستراليا، فهذا ليس أمرا رمزيا فقط، بل إنه كسر لصمت تاريخي، وردّ على عقود من الإقصاء والاحتلال والتجاهل.

لكن الاعتراف، بكل ما يحمله من رمزية، لا يُغني عن بناء الدولة ذاتها. فالدولة تُبنى على الأرض، لا في بيانات السفارات. والاعتراف الخارجي يحتاج شرعية داخلية، وإرادة سياسية، وعملا دؤوبا. ربما يكون الاعتراف مجرد بداية، لكنه بداية لا يجب التفريط بها. إنها لحظة للوعي، للمراجعة، ولإعادة التفكير: ليس فقط في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بل في معنى العدالة، ومعنى السيادة، ومعنى أن يكون للإنسان وطن يُعترف به.
التعليقات (0)