إن دعم
المسجونين السياسيين في
مصر هو العمل الوحيد الذي تستطيع كل التيارات السياسية والجمعيات
الخيرية الاشتراك فيه؛ لأنه عمل إنساني وخيري من الدرجة الأولى.
هذا العمل
قادر على رأب صدع المجتمع، ولملمة جراحه، ومصالحته مع نفسه بكل صدق، شريطة أن يكون
التضامن مع كل المحبوسين دون تمييز بين معتقلي التيار الإسلامي ومعتقلي التيار المدني،
أو بين "شلتنا" ومن هم خارجها. بل إنني أرحب بدفع التبرعات (العشور) إلى
أي جهة تدعم المسجون السياسي المحروم من العودة إلى حياته الطبيعية، كما أدعو زملائي
المسلمين إلى التصدق والإحسان إليهم بانتظام، على أن تُنفق هذه التبرعات في العلاج
من الإصابات، والأمراض المزمنة الناتجة عن فترات الاعتقال الطويلة، والمساهمة في زيارتهم
وتقديم الدعم لعائلاتهم، وشراء العلاج لآبائهم وأمهاتهم.
لائحة
السجون والنضال الإنساني
يُعد النضال
من أجل تطبيق لائحة السجون أهم من النضال البرلماني، حيث يُعامل المحبوسون والمعتقلون
بطريقة لا تحترم القوانين والمعاهدات الدولية التي وقعتها الدولة، ولا ترعى أي حدود
في الخصومة بينها وبين المحبوس سياسيا، لذا فتطبيق لائحة السجون وتمتع المحبوس احتياطيا
بحقوقه، هو عودة لإنسانيتنا، واستعادة للروح المصرية الرحيمة الرؤوفة. مصطلح "
المعتقلين
سياسيا" سليم من الناحية الاصطلاحية؛ إذ يتساوى المحبوسون على ذمة قضية دون حكم
أو تحقيق جاد مع المعتقلين في زمن مبارك، من حيث أنه ليس لديهم حكم جنائي، ولا قضية
من الأصل، ففي السابق كانت تصدر قرارات الاعتقال لمدة سنتين ثم تُجدد، وهي نفس مدة
الحبس الاحتياطي على ذمة قضايا أمن الدولة حاليا. كما أن محاكمتهم تجري بدون أوراق
قضية أو حضور للمتهمين، بل بموجب ورقة صغيرة هي بمثابة قرار الاعتقال.
شرط نجاح هذه الحملات هو الاتفاق على الخطوط العريضة، وطريقة وآلية التضامن والمستحقين له. وحتى في هذه النقطة فشلنا، وعندما نجحنا مرة، ماتت المبادرة تدريجيا
تحديات
التضامن والفشل في التوحد
حاول بعض
النشطاء السياسيين في مصر إطلاق حملات للدفاع عن السجناء دون النظر إلى انتمائهم السياسي،
طالما كان المحبوس غير متورط في أعمال عنف ضد مؤسسات الدولة أو ضد المواطنين، لكنهم
فشلوا. كانت البيانات الحماسية التي تطلق تُشتمّ فيها رائحة الإخلاص وعدم التمييز،
لكنها تفشل في تحقيق المساواة، ليس فقط بين سجناء التيار المدني والإسلامي، بل حتى
بين أفراد نفس التيار تبعا لقوة الأصدقاء وتأثيرهم ومكان عمل المحبوس؛ هل حان الوقت
للاعتراف بأن بيننا مجموعات تعرقل التضامن بين المحبوسين دون تمييز من الناحية العملية؟
شيئا فشيئا تموت المبادرة وتُفرَّغ من مضمونها، دون الكتابة عن أسباب تدهورها كنوع
من نقل الخبرة من أجل البناء عليها.
إن شرط
نجاح هذه الحملات هو الاتفاق على الخطوط العريضة، وطريقة وآلية التضامن والمستحقين
له. وحتى في هذه النقطة فشلنا، وعندما نجحنا مرة، ماتت المبادرة تدريجيا. علينا الاعتراف
بأن بيننا من يُوسّعون الاستقطاب ويعملون على استمراره. وهذا رأيهم ويُحترم، ولكن على
الأقل عليهم أن يتبنوا تحالفات تتفق مع خطهم السياسي والأخلاقي، بدلا من المشاركة في
هذه التحالفات ودفعها بعيدا عن هدفها وسط حالة من الضبابية وعدم الشفافية.
حرمان
المعتقل السياسي من الحقوق
بالنظر
إلى الخدمات التي كانت تقدم للمسجونين السابقين (الجنائيين) المفرج عنهم، تجد أنه كان
يُسمح بإدخال التلفزيون إليهم، وتدعمهم الجمعيات الخيرية أثناء فترات سجنهم بموجب لائحة
السجون، ويتمتعون بكل حقوق المسجون. وحتى عند خروجهم، كان يكفي أن يذهب إلى مبنى المحافظ
ليبكي ويشكو ويقدم عريضة يشرح فيها رغبته في الاندماج في المجتمع، فيوقع له المحافظ
على "باكية للخضار" أو كُشك للسجائر في شارع حيوي، وكانت تتكفل به الجمعيات
الخيرية التي تُنشأ ويكون ضمن أهدافها مساعدة المسجونين المفرج عنهم. كل هذه الخدمات
محروم منها المعتقل السياسي، وكأن الدولة المصرية، وليست المؤسسات الأمنية وحسب، تكرهه
وتدفعه للشعور بالرفض والوقوع فريسة للأمراض النفسية ذات العلاج المرتفع الثمن، ما
يدفع للتفكير في الانتحار، بلا ذرة تعاطف.
التضامن
مع المحبوسين سياسيا أوصى به السيد المسيح، وسيدنا محمد، مع الأخذ في الاعتبار أن الجرائم
التي يُعاقبون عليها هي: الدعوة للتظاهر سلميا، أو كتابة منشور ينتقد الأوضاع السياسية
(مثل غلاء الأسعار)، أو الاعتراض على قانون ينظم الحياة الاجتماعية (مثل قانون التأمينات
أو قانون الإيجارات)، ومؤخرا محاولة التضامن مع القضية الفلسطينية من خلال كتابة لافتة،
أو المشاركة في وقفة تضامنية. لذا، فهي مجرد آراء سياسية.
إن قضية
التضامن مع المسجونين هي قضية دينية أيضا، فقد أوصى بها المسيح عليه السلام، واعتبر
أن التضامن مع المحبوسين من خلال الزيارة هو زيارة له شخصيا: "لأَنِّي جُعْتُ
فَأَطْعَمْتُمُونِي.. مَحْبُوسا فَأَتَيْتُمْ إِلَيَّ.. الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: بِمَا
أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هَؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ فَبِي فَعَلْتُمْ."
(متّى 25: 35-40).
أؤكد أن معالجة آثار سنة حبس تستلزم 5 سنوات من العمل الجاد والعلاج النفسي والاجتماعي، حتى مع وجود تضامن
وفي التراث
الإسلامي: قال تعالى: "وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ
عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينا وَيَتِيما وَأَسِيرا" (الإنسان: 8)، في سيرة النبي (ص)
أحسنَ للأسير والمُعلِّم، حيث قايض أسرى بدر بأن يُعلِّم كل واحد منهم عشرة من المسلمين
القراءة والكتابة للإفراج عنه. قال الإمام علي (ع): "إطعامُ الأسير والإحسانُ
إليه حقٌّ واجبٌ!". وكان يدعو: "احبسوا هذا الأسير، وأطعمُوه وأسقوه، وأحسِنُوا
إساره". وإذا كان الإحسان إلى السجين العدو المحارب أو المجرم الذي أنهى عقوبته
حقا وواجبا دينيا، فما بالك بالسجين السياسي الذي لم يقترف ذنبا سوى التعبير عن رأيه
السياسي فقط؟ فإذا افترضنا أن رأيه خاطئ، فليس عقابه المكوث في غياهب السجون لسنوات
طويلة أو لشهور في أفضل الحالات.
اقتراح
للمصالحة الوطنية
لا يوجد أفضل من خبر إطلاق سراح محبوس سياسي
ليُدخل البهجة والفرحة إلى كل العائلة والأصدقاء. وقد لمست الحكومة المصرية ذلك، فأصبحت
تُطلق محبوسين احتياطيا كلما رغبت في مداعبة المجتمع، وتعتقل آخرين لمجرد إرسال رسالة
أو لإحباط مجموعة عن المشاركة، أو تُطلق سراح آخر لترضية خاطر آخرين؛ بهذه الطريقة
أصبحت تخاطبنا الحكومة. لذا، اقتراحي للحكومة أن تسمح بالتضامن مع المحبوسين سياسيا،
وتعتبر ذلك مشاركة في العمل الخيري الوطني، وكوسيلة للتصالح وتقريب وجهات النظر بين
الحكومة ومجموعات المعارضة والمثقفين.
من أجل أبناء المحبوس وزوجاتهم الذين يشاركون
المحبوس العقاب (خلال الضائقة المالية والنفسية، وساعات الانتظار الطويلة، والقلب المكسور
حزنا وغما، وفشل الأبناء في الدراسة، واكتئاب الجميع)، إنني ومن وازع إنساني، أدعو
الحكومة إلى السماح للمجتمع بل والمشاركة معه في حملة وطنية وقومية هدفها دعم المحبوس.
وهنا أود أن أؤكد أن معالجة آثار سنة حبس تستلزم 5 سنوات من العمل الجاد والعلاج النفسي
والاجتماعي، حتى مع وجود تضامن.
(ناشط سياسي ونقابي عمالي ومعتقل رأي سابق في مصر)