كتاب عربي 21

ترامب والتدين المتوحش

"حركة قومية مسيحية تدعو إلى وضع أدوات الحكومة والمجتمع تحت السيطرة المسيحية"- جيتي
قيل بأن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أصبح أكثر تدينا هذه الأيام، وهو يقول بأنه بعد حادثة الاغتيال الفاشلة التي تعرض لها خلال حملته الانتخابية الأخيرة، شعر بأن "شيئا تغير في داخلي"، وأضاف في إفطار صلاة في مبنى الكابيتول الأمريكي: "كنت أؤمن بالله، لكني أشعر به بقوة أكبر". وعلى هذا الأساس، تم فتح ما يسمى بـ"مكتب الإيمان" في البيت الأبيض، وهو عبارة عن مؤسسة دعوية، وأعلن بالخصوص أنه "يتعين علينا إعادة الدين. دعونا نعيد الله إلى حياتنا".

تكون العودة إلى الدين في الغالب، خاصة مع تقدم السن، علامة صحية تدفع بالمتدين نحو مراجعة حياته، والتقرب إلى الله بالتوبة النصوحة والإكثار من التأمل الروحي، لكن هناك من يكون تدينه مؤشرا سلبيا وأحيانا يكتسي طابعا كارثيا. وقد شهدنا في عالمنا الإسلامي أمثلة عديدة وخطيرة، وكانت تداعياتها مؤلمة على أكثر من صعيد، ويعود السبب في ذلك إلى نوعية الفكر الديني الذي يحمله الشخص، ويفسر من خلاله المقدس وكيفية توظيفه.

هذا التدين الذي يسمح لأصحابه بارتكاب كل هذه الجرائم، هل يمكن أن يقبله السيد المسيح ضمن أتباعه؟ لا نعتقد أن سلوكا من هذا النوع يمكن أن يبرر من قِبل أي دين ومن أي رسول. والأغرب من كل هذا، اعتقاد ترامب بأن سياسته هذه تقربه من الله، وتسرع في عودة المسيح، وفي إقامة مملكة الرب. كيف يستسيغ العقل مثل هذا الاعتقاد السخيف الذي يجعل من الإله جزءا من تراجيديا مأساوية ظالمة يذهب ضحيتها الشعب الفلسطيني برمته؟

يؤمن ترامب البالغ من العمر 78 عاما بالمسيحية الإنجيلية، ومتأثر بكنيسة الإصلاح الرسولي الجديد، وهي "حركة قومية مسيحية تدعو إلى وضع أدوات الحكومة والمجتمع تحت السيطرة المسيحية"، أي إخضاع السياسة والدولة للتأويلات الدينية، خلافا لمقولة فصل الدين عن الدولة. ولا تكمن المشكلة فقط في هذا التصور في العلاقة بين الديني والسياسي، ولكن أيضا في الربط العميق بين هذه العقيدة المسيحية المتطرفة، والصهيونية الدينية في بعدها الراديكالي. لهذا، اعتبر الكاتب الإسرائيلي روجيل ألفر أن ترامب أصبح "وكيل الحاخام مائير كاهانا في البيت الأبيض"، بل وأصبح "قائدا أيديولوجيا له". وكاهانا هو الحاخام المتطرف الذي قتل عام 1990، وتقوم رؤيته على التهجير القسري والتطهير العرقي للفلسطينيين.

يقوم البيت الأبيض الآن بدور الداعم والمحرض لإسرائيل على الإسراع بتنفيذ خطة ترامب المتعلقة بتهجير سكان غزة بكل الوسائل، بما في ذلك تشديد الحصار والتجويع. ولا علاقة لأمريكا اليوم بالسلام لا من قريب ولا من بعيد، حتى الإجراءات التي اتخذها سلفه ألغاها ترامب، بما في ذلك بيع القنابل شديدة التدمير. لهذا، أعلن بتسلئيل سموتريتش أنهم شرعوا في التحضير مع الأمريكيين لتنفيذ خطة التهجير "الطوعي" من قطاع غزة، التي من أدواتها منع كل ما من شأنه إعادة بناء غزة، والحيلولة دون تمكين أهلها من ضرورات الحياة. هذا ما صرح به نتنياهو، وتتولى أجهزته تنفيذه يوميا، كما شرع الجيش الإسرائيلي في القيام به من خلال استهداف المدنيين والشرطة داخل غزة، حتى تجاوز عدد الشهداء المائة منذ سريان العمل باتفاقية وقف إطلاق النار.

هذه ليست سوى مقدمات لما هو أخطر، ويتعلق بما يسمى باليوم التالي، فالمعلوم أمريكيا وإسرائيليا أنه بعد انتهاء مسلسل تبادل الأسرى وتسلم آخر أسير لدى المقاومة، ستُستأنف الحرب لتكون على أشدها، التي وُصفت بفتح أبواب الجحيم، ومن ثم سد المنافذ في وجه الغزاويين، مع فتح البوابة المصرية لمن أراد النجاة بنفسه.

يجب الاعتراف ضمن هذا السياق، بأن الفلسطينيين في مأزق خطير، وأنهم يواجهون هذا النمط من "التدين المتوحش"، الذي يضعهم بين خيارين: إما التنازل عن الوطن ونسيانه، أو البقاء والموت. لكن مع ذلك، لا يحق لأي كان، وبالأخص العرب، أن يضغطوا عليهم ويعملوا على كسر إرادتهم.

هذا التدين الذي يسمح لأصحابه بارتكاب كل هذه الجرائم، هل يمكن أن يقبله السيد المسيح ضمن أتباعه؟ لا نعتقد أن سلوكا من هذا النوع يمكن أن يبرر من قِبل أي دين ومن أي رسول. والأغرب من كل هذا، اعتقاد ترامب بأن سياسته هذه تقربه من الله، وتسرع في عودة المسيح، وفي إقامة مملكة الرب. كيف يستسيغ العقل مثل هذا الاعتقاد السخيف الذي يجعل من الإله جزءا من تراجيديا مأساوية ظالمة يذهب ضحيتها الشعب الفلسطيني برمته، مقابل معتقدات خرافية ذات أبعاد استعمارية قائمة على السرقة والجشع المحرم؟

أصبح معلوما أن "ترامب لا يحب الأصدقاء الضعفاء، فهو يحترم القوة"، حسبما جاء على لسان الرئيس الأكراني فولوديمير زيلينسكي. هو يتعامل مع الجميع وفق هذه القاعدة، بمن فيهم الموالون للولايات المتحدة، لهذا لن تنفع معه لغة التنازلات التي بلا مقابل ودون حدود. يرفع السقف عاليا، ثم يقبل ما يقدم له، ويعدّه جزءا من الحساب لا غير.

يجب الاعتراف ضمن هذا السياق، بأن الفلسطينيين في مأزق خطير، وأنهم يواجهون هذا النمط من "التدين المتوحش"، الذي يضعهم بين خيارين: إما التنازل عن الوطن ونسيانه، أو البقاء والموت. لكن مع ذلك، لا يحق لأي كان، وبالأخص العرب، أن يضغطوا عليهم ويعملوا على كسر إرادتهم وتشجيعهم على الاستسلام، بحجة أنه لا بديل لهم عن ذلك. من ينتهج هذا الاختيار، يصبح متورطا تاريخيا؛ لأن الأمر لا يتعلق بتسوية سياسية، وإنما بتصفية تامة ومذلة للقضية.