يعيش الغزاويون اختبارا فوق طاقة البشر، ففي كل فجر من أيام رمضان تزورهم آلة الموت لتحصد العشرات منهم دون تمييز بين طفل وامرأة ورجل، لتبدأ بعد سباق مع الزمن من أجل إنقاذ من تُكتب له الحياة ليبقى يعاني بقية العمر من عاهة دائمة. لكن هل تتحمل
حماس مسؤولية ذلك؟ طرحت على نفسي هذا السؤال وأنا أشاهد المجموعات التي خرجت في
غزة أو في شوارع رام الله تطالب الحركة بالاستسلام ومغادرة غزة لتنتهي، ظنا بأن الحرب ستضع أوزارها وسيعم السلام.
مرة أخرى، لست من أنصار التدخل في شؤون
الفلسطينيين وتغذية خلافاتهم، فهم أدرى بشؤونهم الداخلية، كما أني لا أنتمي إلى فصيل موال لحركة الإخوان المسلمين، حيث لي قراءتي النقدية لحركات الإسلام السياسي، لكن المسألة تتعلق بالمقاومة الوطنية التي تواجه أشرس حرب إبادة تشن على شعب يتمسك بأرضه وحقوقه، وعلى هذا الأساس وجدت كل هذا التعاطف العالمي ودعم الأحرار في كل مكان.
حاليا هناك مأزق رهيب بعد أن تلقى نتنياهو دعما قويا من ترامب وإدارته، مما جعله ينقض الاتفاقية التي وقع عليها بدعم أمريكي مباشر، فقرر العودة من جديد إلى الحرب في محاولة منه لاسترجاع بقية الأسرى بلا مقابل أو بمقابل هزيل، ليعود بعد ذلك إلى سياسة التقتيل والتهجير. ولأنه جيش بلا أخلاق ولا قانون، قرر استهداف المدنيين ليبتز بذلك قيادة
المقاومة، وهو ما جعل حماس محشورة في زاوية حادة، وولّد حالة من اليأس في صفوف المدنيين الذين نكّل بهم
الإسرائيليون، وجعلوهم يهرولون من جهة إلى أخرى بحثا عن مكان آمن لهم وأطفالهم، يمزقهم الجوع ويحاصرهم الموت في كل زاوية.
استثمار أوجاع المدنيين في هذا الظرف بالذات لا يندرج ضمن التحركات البريئة سياسيا، وقد يزيد الطين بلة. فالأولوية اليوم تفرض التفكير في تخفيف الضغط العسكري المسلط على القطاع، ومحاولة رد العدوان بكل الوسائل
في هذه اللحظة المفصلية، قرر البعض شن حملة إعلامية وسياسية ضد حماس وحركة الجهاد لدوافع لا نريد الوقوف عندها. فاستثمار أوجاع المدنيين في هذا الظرف بالذات لا يندرج ضمن التحركات البريئة سياسيا، وقد يزيد الطين بلة. فالأولوية اليوم تفرض التفكير في تخفيف الضغط العسكري المسلط على القطاع، ومحاولة رد العدوان بكل الوسائل. فحماس جزء لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني، وتتعرض إلى خسائر هامة مثل بقية الفلسطينيين. ويكفي أن عددا من قادتها تمت تصفيتهم مع عائلاتهم بعد استئناف حرب الإبادة، وتخضع لضغوط من جهات متعددة من أجل التوصل إلى استئناف المفاوضات وإنهاء الحرب. وعلى هذا الأساس قبلت بالتخلي عن حكم غزة بمفردها، وأن تكون شريكا في إدارتها من أجل إعادة تعميرها، لكنها لن تتخلى عن سلاحها الذي سيبقى الضامن الرئيسي لبقائها ولحماية الفلسطينيين. وهو شرط لا يمكن التخلي عنه في ظل الظروف الحالية، ومع عدو لا يعترف بالعهود والاتفاقيات.
أما القول بأن هذا شأنهم، وأن الذين أقدموا على عملية السابع من تشرين الأول/ أكتوبر دون استشارة السلطة ودون التفكير في تداعياتها، وعليهم أن يتحملوا المسؤولية، وهم المطالبون وحدهم بإيجاد حل للخروج من المأزق، فهذا تفكير قاصر وعقيم لأنه أشبه بالمرء الذي يترك شقيقه يغرق في البحر بحجة أنه غامر بالسباحة دون أن يستأذن من ولي أمره.
أين هو المشروع الوطني؟ ومن يتولى حاليا الدفاع عنه في هذه المرحلة الصعبة والتاريخية؟ أين قيادة فتح، وماذا بقي من السلطة الفلسطينية بعد أن أعلن محمود عباس عن إيمانه بالمقاومة، معتمدا على التعاون مع العدو لحل المشكلة الفلسطينية؟!
يعتقد الفتحاويون عموما بأن إسرائيل "راهنت على حماس طويلا من أجل قطع الطريق على تقدّم المشروع الوطني الفلسطيني"، كما ورد في مقال لـ "خير الله خير الله" تحت عنوان "إنقاذ قادة حماس أهم من إنقاذ غزة" المنشور في صحيفة "المسار" الالكترونية. ولكن السؤال الذي يفرض نفسه في هذا السياق: أين هو المشروع الوطني؟ ومن يتولى حاليا الدفاع عنه في هذه المرحلة الصعبة والتاريخية؟ أين قيادة فتح، وماذا بقي من السلطة الفلسطينية بعد أن أعلن محمود عباس عن إيمانه بالمقاومة، معتمدا على التعاون مع العدو لحل المشكلة الفلسطينية؟! وهل هذه السلطة شيئا ما لردع إسرائيل وإيقاف الاستيطان في الضفة الغربية وكبح الصهاينة من تدنيس المسجد الأقصى غير إصدار بيانات التنديد واللجوء إلى اجتماعات الأمم المتحدة؟
لا يعني ذلك أن حركة "حماس" كيان مقدس لا تخطئ ولا يمكن انتقادها، لكن عموم الفلسطينيين يقفون حيارى أمام هذا الفراغ السياسي الرهيب للسلطة مقابل هذا الطغيان المتزايد للأخطبوط الصهيوني، حيث يواصل الإسرائيليون مسعاهم للبحث عن دول تستقبل سكان غزة. وبما أن الطبيعة تكره الفراغ، كان لا بد من قيام مبادرة للتصدي لمخططات أقصى اليمين الصهيوني، فكانت عملية طوفان الأقصى. ولو كان عرفات ما زال حيا، لعرف كيف يستفيد منها حتى لو انتقد القائمين عليها. ورغم أن مختلف فصائل المقاومة أصدرت بيانا نددت فيه بهذه المحاولات، ووضعتها ضمن السياق التاريخي، فالمؤكد أن المرحلة تستوجب كثيرا من الحذر والوعي، وتفرض على المخلصين استكمال المهمة حتى النهاية.