كتاب عربي 21

تجديد الخطاب الديني بين هوية الخطاب وخطاب الهوية.. مشاتل التغيير (17)

"تأسيس وتأصيل الخطاب المستقل النابع وما يستلزمه من عمل وفاعلية ونفض عنا الخطاب التغريبي التابع"- جيتي
يمكن تضمين قضايا القرنين -بل كذلك القضايا التي ستجدُّ من بعد- في هذا الإطار الذي يقطع بضرورة وضوح رؤية إسلامية (حضارية ذاتية) شاملة لعناصر التجدُّد الحضاري الذاتي ومرجعيته والسنن الحاكمة له، وضرورة الجمع بين الوعي العميق بها، والسعي سعيا غير قاصر؛ لا جزئيا ولا ذا علة بما يتبدى في البنية التقويمية للخطاب الديني وأطره. إننا بهذا نقف بين تجديد حقيقي قوامه الذات الحضارية ومكنات التجدد فيها، وتجديد زائف على قاعدة من استبدال الأسس الحضارية للأمة، والرضاء بموقف الذيلية تجاه الآخر (الغرب).

من ناحية أخرى فإن "قضية الهوية كانت -ولا تزال- هي القضية الحاكمة لمسار وتطور التجديد والتجدد في الفكر وفي الخطاب الديني عبر القرنين"، حيث بدأ سؤال الوعي بالإشكال الحضاري بمتسلسلة سؤال الهوية المركب من:

- من نحن؟

- ماذا نملك؟

- على أي أرض نقف: الحضارة بين غالب ومنغلب ومغالب؟

- ماذا نأخذ وماذا نرفض أن نأخذ من الغرب؟

- إلى أين المسير؟

سؤال النهضة المسموم وضع التيار النابع من الذات أمام خيارات غير موائمة: بين العودة إلى الذات والبحث فيها عن ماكينات التجدد والممانعة والمقاومة والنهوض، ولكن مع الوقوع في فخ الانغلاق والانكفاء بعيدا عن العصر، وبين الاختيار المضاد؛ كل ذلك لغيبة الوعي بأصول المواجهة الحضارية الجامعة بين الوعي بالذات واستبانة سبيل الآخرين

إن هذه الأسئلة لا بد أن تُطرح بترتيبها بما يستقيم معه سؤال النهوض، وفق الأولويات، والضرورات، وفقههما. إن اعوجاج سؤال النهضة وتسممه بنقص الوعي بالذات ومكناتها آل على حالة من الخلل والعطل والعطب، خاصة فيما تبناه التيار التابع المنفصم عن ذاته.

أما التيار النابع فهو لم يكمل متسلسلة أسئلته من جهة، ولم يواجه واقعه بالوسائل المكافئة من جهة أخرى، فظل يتعامل مع القضايا إما تجزيئيا أو كردِّ فعل، ولم يلتفت إلى أن فضيلة المنظومة الإسلامية الأساس إنما هي في منظوميتها ووحدتها كنسيج لا ينقض غزله وهو على حاله؛ ومن ثم لم يكن ممكنا تناول القضايا المنبثقة عبر المسير بعيدا عن نسيجها الحضاري المتماسك. هذا الإغفال -أو هذه الغفلة- كان مجالا للخطاب التابع ليعيد تسكين القضايا في أطر الآخر وبعيدا عن الذات.

إن سؤال النهضة المسموم وضع التيار النابع من الذات أمام خيارات غير موائمة: بين العودة إلى الذات والبحث فيها عن ماكينات التجدد والممانعة والمقاومة والنهوض، ولكن مع الوقوع في فخ الانغلاق والانكفاء بعيدا عن العصر، وبين الاختيار المضاد؛ كل ذلك لغيبة الوعي بأصول المواجهة الحضارية الجامعة بين الوعي بالذات واستبانة سبيل الآخرين.

لقد عبرت مسيرة القرنين عن حالة من الاشتباك على مائدة قضايا واحدة، لكن بين صفين أو شبكتين من المفاهيم: بين من أراد أن يداوي أزمة الواقع لكن من صيدلية الغرب والهجرة عبر المكان، ومن أراد أن يصنع أدوية الواقع المعتل من خلال الهجرة عبر الزمان. إن هذا يذكرنا بالمقولة الذهبية للإمام ابن القيم للجمع بين نوعي الوعي أو الفقه: "الفقه فقهان: فقه في الأمور الكلية وفقه في الحوادث الجزئية، ولا بد أن نعطي الواجب حقه من الواقع والواقع حقه من الواجب". وهذا ما لم يفعله الفريقان إما كليا وإما جزئيا.. حتى جاءت اللحظة ليُغتصب الأمران معا؛ الواقع والواجب أو اغتصاب التطبيق.

لقد تجلى هذا السؤال القلب، السؤال النبع، السؤال المنطلق: سؤال الهوية، في عدد من الأسئلة المتولدة والمنبثقة عنه؛ وعلى رأسها "سؤال اللغة". فاللغة هي الواسطة المؤسسة للهوية، هي التي تمثل "بيان الهوية" وبينتها ودليلها وأمارتها، اللغة هي الرابطة الواصلة، والمميزة الفاصلة، تحدد مساحة الذات وامتداداتها ومتعلقاتها، وتحدد حدود الذات وكيانها اللامِّ لعناصرها، واللغة هي أولى القضايا اتصالا بالهوية إذ هي أداة الوعي بالذات وأداة التوعية، هي ثقافة وحضارة وتاريخ، وسيرة ومسيرة وسيرورة، هي في الخطاب الفصل وفصل الخطاب: وعاء الهوية ووعيها، ووعاء المرجعية ومنظومة تنتظم نسق القيم الحضارية وتعبر عنها. إن "العبارة اللغوية" ليست مجرد جملة حروف وكلمات صماء، بل هي روح فياضة، عبارة ومعبر وعبور وعبرة، ونسق تفكير ومكنات تدبير وضوابط تغيير.

ومن ثم جاءت الهجمة على اللغة مبكرة مع استهداف الهوية والكيان؛ فمنشور الاستشراق وخطابه والخطاب النابليوني مع اللحظة الفارقة الأولى، مثَّل محاولة بينّة لإحداث قدر من التلبيس والتدليس والتسميم اللغوي بالمعنى الثقافي والحضاري الفياض ومقتضياته، كشف هذا الخطاب عن مدخل الزيف بمحاولة حبس اللغة وتسميمها لكي تتحول من القيام بوظائف البيان إلى التورية والتمويه ووحي الزخرف، ومن الإفهام إلى الإبهام والإيهام، ومن البلاغة والبلاغ والتبليغ إلى قلب حال اللغة وتكسير عظامها، فتنتقل من اللغة الفاعلة إلى اللغة المنفعلة، من لغة القرآن التي تصل بالمرجعية والذاتية وتتوسط الطريق بين الحال وذاكرتها والمآل، إلى لغة مسمومة تقطع الطريق على العودة وتأوي إلى ركن شديد.

وعليه يمكن نسج قضايا القرنين أو يزيد وما دار حولها من خطاب وتجديد في إطار وشواهد:

- أما الإطار فهو المتعلق بالقضايا التأسيسية التي لا تزال أسئلتها مطروحة بعد قرنين: وهي بالأخص قضيتا الهوية واللغة، وهما تعبران عن محددات وتطورات العلاقة بالآخر وتحديد محاور انتماء الذات.

- وأما الشواهد فهي سائر القضايا التي أفرزها تطور هذا الإطار من قبيل قضية انتماء (بين مفرق: الخلافة الإسلامية- الدولة القومية المستقلة، القومية العربية) وقضية تطبيق الشريعة الإسلامية والنظام السياسي للدولة، ومسألة المؤسسات ذات الطابع العام بين ما يسمى بالتقليدية والمؤسسات المستحدثة (حالة الأوقاف نموذجا)، وقضية التعليم (بين تطوير التعليم السائد/ التقليدي وتحديث منظومة التعليم بالاستفادة من التجارب الغربية)، ومسألة المرأة (كقضية للتغيير الاجتماعي ونقد الأوضاع والسعي لإدخال تحويرات معينة عليها). غير أن الخطاب حول الدين والعلم، والدين والحياة، والدين والهوية -على نحو ما أشير إليه من قبل- سوف يجذب مقاربات واضحة من المسألة تحت عنوان: الدين والسياسة، الأمر الذي فجّر مجالا خطابيا حول موقع الديمقراطية من الشورى، والنموذج الغربي، والنموذج الإسلامي للحكم، والانتخابات والمجالس.

من اللحظة الاستعمارية الى اللحظة العولمية؛ ومن ورائها تفاقم الخطاب.. كانت هذه هي البداية، لكن الأمر استشرى فيما بعد منتجا خطابا حول التحديث والتعليم والمرأة متصاعدا نحو تماثل تيار تغريبي أو متغرب بلغ أوجه في ظل الاحتلال البريطاني، وخاصة مع انعطاف القرن العشرين. ويلحظ البشري في ذلك "أن بعثات النصف الأول من القرن التاسع عشر كانت تتجه إلى العلوم الطبيعية وفنون الصنائع، بينما اتجهت بعثات النصف الثاني من ذلك القرن إلى العلوم الإنسانية، وبخاصة ما يتعلق بالآداب وما يتعلق بإعادة تربية الوجدان وصياغة العقول والرؤى الحضارية.

وكانت بعثات أوائل القرن يرسل فيها المبعوثون من الرجال الناضجين في مرحلة من العمر مما يلي فترة التربية والتنشئة، وهؤلاء أقل استعدادا لإعادة التشكُّل وللتقليد والمحاكاة، بينما ذهب مبعوثو النصف الأخير من القرن من صغار السن الأقل مَنَعة. وصف عبد الله النديم واحدا من هؤلاء على لسان أبيه في واحد من أعمال النديم. قال الأب: "ولدي توجّه إلى أوروبا، وحضر يذم بلاده وأهله، ونسي لغته". وكان النديم يسمي ظاهرة المحاكاة تلك باسم "مرض الإفرنجي". كان لهذا الاسم وقتها معنى شائع يتعلق بالأمراض الجنسية، وأراد النديم أن يستخدم هذه التورية. وأشار مصطفى صادق الرافعي في واحدة من مقالاته إلى "الشعوب المُترجَمة التي صارت في كنف لغة أخرى وأفكارها".

لقد أفرزت حالة العولمة لحظة عولمية شديدة الوطأة؛ ومزيدا من ارتباط الخطاب العلماني بمنطلقه التغريبـي، حيث إن سمة مضافة اصطنعتها العولمة، أو ربما كشفت عنها ورسختها، وهي "الاتصال القريب بين الخطاب العلماني والخطاب العولمي"، هذا الاتصال ثم التواصل تمثَّل في تبنّي كل من الخطابين لأطروحات الآخر، وتقديمها على صورة "مشاريع/ أطروحات/ مبادرات/ نداءات.." لإحداث "الإصلاح العلماني/ العولمي المنشود" في الأمة؛ لإدخالها في العصر، وإنقاذها من براثن التقليد والأصولية والراديكالية والتطرف والماضوية والإرهاب.. تلك الأوصاف التي أضحى يوصف بها الخطاب المقابل، داخليا وعالميا.

حالة من "خطاب أزمة الهوية" أو "أزمة خطاب الهوية" أو "خطاب الهوية المتأزم/ المتأزمة"، تحتاج إلى إعادة النظر في دلالات مفهوم "الهوية" نفسه في الخطاب الراهن بين: الهوية الأم والهويات الوليدة، والهوية المركز والهويات الأطراف، والهوية الفاعلة والهويات الموظّفة، والهوية العقدية والهويات المسيّسة

ومن هنا انتقل السجال الخطابي إلى مستوى آخر: مستوى كوني، يصطف فيه الخطاب العلماني المصري في دائرة الخطاب الغربي اصطفافا مباشرا، ولم يعد يدعو للأخذ بما لدى الغرب في التحديث، بل بإملاءات الخطاب الغربي، فصرنا أمام خطاب علماني كوني.. يقابله خطاب إسلامي كوني (يتراوح بين الحوارية: حوار الحضارات، بشكل مطلق أدنى إلى السلامية الوطنية المصرية في التعامل مع إسرائيل والصهيونية، وبين الصدامية الحضارية والقسطاطين الكونيين والمواجهة بلا هوادة، وما بينهما من تعارفية غير واضحة المعالم حتى الآن..) خطاب يقف بين الممانعة على التعلمن، وبين المصارعة على كسب المعركة الخاصة بنظام حكم الدولة، النظام العالمي (الأمة في مواجهة الغرب..)، وبين خطابات غير أصيلة تفرزها أشكال التداخل السابقة تدعو إلى فك الاشتباك الكوني باستحداث أشكال جديدة للمسألة العالمية.

إن هذا التحليل المفاهيمي لدلالات "الهوية" وارتباطها بلحظات تاريخية بالغة التأثير؛ في نهاية مطاف خطابات الهوية وسجالاتها قد يكشف لنا أن "تجديد الخطاب الديني" المتعلق بالهوية حين يُفرض من قبل "الآخر" فرضا، وفي هذا السياق الذي يشهد إرساء قواعد جوانتانامو الكونية، هذا قد يكشف عن غايات "تسميم الهويات" واستراتيجياته وآلياته، وإضفاء المزيد من "التأزيم" و"التسميم" و"التقزيم" و"التأميم" على هذا الخطاب ومتعلقاته..!! ليعاد تشكيل هوية سائر الأقطار الممزَّقة ضمن سياقات جديدة مصطنعة من قبيل: الشرق-أوسطية، الشراكة الأورومتوسطية، العولمة والقرية الواحدة.. إلخ، بل والبعد الأفريقي.. لتتخلق حالة من "خطاب أزمة الهوية" أو "أزمة خطاب الهوية" أو "خطاب الهوية المتأزم/ المتأزمة"، تحتاج إلى إعادة النظر في دلالات مفهوم "الهوية" نفسه في الخطاب الراهن بين: الهوية الأم والهويات الوليدة، والهوية المركز والهويات الأطراف، والهوية الفاعلة والهويات الموظّفة، والهوية العقدية والهويات المسيّسة، والهويات الحقيقية والهويات الزينة والزخرف والبهرج، والهويات الصاخبة (الإعلانية الدعائية) والهويات المسكوت عنها.. إلخ.

أردنا من هذا أن نوضح استمرارية السجالات مع كل لحظة يُطرح فيها عمليات الثورة والإصلاح ومشاتل التغيير؛ وقصدنا بذلك أن نبصر بالخروج من دائرة السجال العقيم إلى عملية البناء القويم والمستقيم؛ فيشغلنا تأسيس وتأصيل الخطاب المستقل النابع وما يستلزمه من عمل وفاعلية ونفض عنا الخطاب التغريبي التابع وما يخلفه من صراع وزيف؛ فيتحقق التغيير على هدى وبصيرة وكتاب منير وصراط مستقيم يحقق الخير العميم للأمة ومكوناتها وأفرادها، "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ" (الرعد:11).

x.com/Saif_abdelfatah