كتاب عربي 21

"كامب ديفيد" تتهاوى أمام طبول الحرب

"كان الشعب المصري عصيا على هضم كل محاولات التقارب الصهيونية"- إكس
على الرغم من مرور 47 عاما على اتفاقية كامب ديفيد (1978) المؤهلة لاتفاقية السلام، بين مصر والكيان الصهيوني في العام التالي (1979)، إلا أن لا أحد في عموم الدولة المصرية قد آمن ذات يوم بذلك السلام، أو بإمكانية استمراره، سواء تعلق ذلك بجيل الاتفاقية، الذي خاض حرب الهزيمة 1967 وحرب النصر 1973، أو ما تلاه من أجيال عدة على امتداد نحو نصف قرن من الزمان؛ حرصت خلاله القيادة السياسية بمختلف أشكالها، من خلال الإعلام الرسمي، على الترويج، دون جدوى، لهذه الحالة الهشة من التعايش بين الجانبين، رغم ما تخللها من أحداث فردية دامية بين الحين والآخر، على أيدي جنود وطنيين لم يشتغلوا أبدا بالسياسة، إلا إنها الفطرة التي لم تقبل أبدا بالوجود الصهيوني المغتصب للأرض العربية الفلسطينية المقدسة، بشكل خاص.

وعلى الرغم من ذلك، فإن حديث الحرب طوال الأعوام الـ47 الماضية، لم يكن مطروحا في الأروقة المصرية، بقدر ما هو الآن، على الرغم من التصريحات المتعددة للرئيس عبد الفتاح السيسي، التي يمكن تفسيرها بالاستسلام، والتي كان آخرها أنه "لا يمكن استخدام القوة، من أجل إدخال المساعدات الإنسانية للشعب الفلسطيني في قطاع غزة، لأن ذلك معناه -على حد قوله- التضحية بالشعب المصري"، وكأن الشعب المصري من الضآلة وانعدام القيمة،
الاتفاقية المبرمة بين الجانبين أصبحت تُنتهك على مسمع ومرأى العالم، بشهادة الرئيس المصري نفسه، فيما يتعلق باجتياح محور صلاح الدين على الحدود المشتركة، ناهيك عن التحريض الإعلامي المستمر على مدار الساعة، من خلال وزراء ومسؤولين متطرفين، بلغت ممارساتهم حد الإرهاب
للدرجة التي يسهل معها تدميره وإبادته على يد العدو، وهو التصريح الذي لاقى انتقادا واسعا، وامتعاضا كبيرا في الشارع العربي، ناهيك عن السخرية التي تطال دائما شخص الرئيس، جراء حالة الضعف والمسكنة التي تنتابه مع توجيه حديثه للعدو، على خلاف حالة الوعيد والنذير التي يتقمصها مع توجيه حديثه للشعب.

باستثناء بعض الفئات، والطابور الخامس الأمريكي، والمستعربين الصهاينة في الأوساط السياسية والإعلامية والثقافية، سوف تجد المصريين على قلب رجل واحد فيما يتعلق بالموقف من العدو الصهيوني؛ ليسوا في حاجة إلى أدلة إضافية على غدر العدو وأطماعه في أرض سيناء، ليسوا في حاجة إلى مزيد من التغييب حول أطماع العدو في المنطقة ككل، كما ليسوا في حاجة أبدا للتدليل على أن الحرب على الأبواب، بعد أن دق طبولها رئيس حكومة الكيان بنيامين نتنياهو، بالإفصاح عن أطماعه في أكثر من دولة من دول المنطقة، من بينها مصر، في ظل دعم أمريكي- غربي غير مسبوق، خصوصا من كل من بريطانيا وألمانيا.

لم يعد هناك من خطاب ناعم يمكن توجيهه للمصريين بخصوص إمكانية استمرار السلام مع ذلك الكيان، لم يعد مجديا تضمين المناهج الدراسية للتلاميذ ما يشير إلى أن ذلك الكيان يرغب في العيش بسلام، لم يعد هناك مبرر لاستمرار تعديل الخطاب الديني والثقافي والتاريخي في هذا الاتجاه، بل لم يعد هناك أي سبب لاستمرار وجود سفارة للكيان في العاصة المصرية أو العكس؛ الاتفاقية المبرمة بين الجانبين أصبحت تُنتهك على مسمع ومرأى العالم، بشهادة الرئيس المصري نفسه، فيما يتعلق باجتياح محور صلاح الدين على الحدود المشتركة، ناهيك عن التحريض الإعلامي المستمر على مدار الساعة، من خلال وزراء ومسؤولين متطرفين، بلغت ممارساتهم حد الإرهاب.

إحقاقا للحق، كان الشعب المصري عصيا أمام عملية التطبيع مع ذلك الكيان طوال تلك السنوات، على خلاف شعوب عديدة في المنطقة لم يكن لديها أي مبرر للتعامل معه، كان الشعب المصري عصيا على هضم كل محاولات التقارب الصهيونية، بل لم تستطع السلطة الرسمية بكل أدواتها الإعلامية والتعليمية والثقافية والدينية تسويق السياسات الأمريكية بإداراتها المتعاقبة، باعتبارها وسيطا نزيها، أو حتى صديقا وفيا، للسبب نفسه، وهو الانحياز للكيان بكل ممارساته القمعية والدموية، تجاه الأشقاء الفلسطينيين والمنطقة بشكل عام.

إذا كان البعض قد راهن على استمرار حالة السلام الخادعة التي سادت العلاقات، منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد، فقد اختلفت الأوضاع الآن للدرجة التي يمكن التأكيد معها على أن "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"

وإذا كان البعض قد راهن على استمرار حالة السلام الخادعة التي سادت العلاقات، منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد، فقد اختلفت الأوضاع الآن للدرجة التي يمكن التأكيد معها على أن "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، وهو الشعار الذي كان سائدا في الشارع المصري على مدى ستة أعوام، منذ ما بعد الهزيمة في عام 1967 إلى أن تحقق النصر عام 1973، وذلك على الرغم مما يردده الرئيس المصري طوال الوقت من أنه لا يريد الحرب ولا ينشدها إلا إذا فُرضت علينا، وهو ما أصبح مؤكدا من جملة معطيات على الجانبين المصري والإسرائيلي في آن واحد.

في الأروقة السياسية بشكل خاص، لم يعد الحديث يدور حول إمكانية اندلاع الحرب من عدمه، بل أصبح الحوار شائكا حول طبيعة "الضربة الأولى"؛ من أي طرف سوف تنطلق، حجمها، هدفها، توقيتها، ذلك أن الضربة الأولى كانت حاسمة في الحربين المشار إليهما بين الجانبين، عندما باغت الكيان الجانب المصري بضرب كل المطارات في توقيت متزامن في حرب الهزيمة، وعندما باغت الجانب المصري الكيان باجتياح خط بارليف والعبور على امتداد قناة السويس في حرب النصر، وهو ما تراه الذاكرة المصرية أمرا حاسما على امتداد المواجهة، طالت أم قصرت، مع الوضع في الاعتبار ما أكدته وثائق التاريخ، من أن الجانبين يقرآن بعضهما البعض إلى حد الاختراق.

على أية حال، تبقى الإشارة إلى أن عملية طوفان الأقصى، في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، كانت سببا رئيسا في تصحيح كثير من المفاهيم المغلوطة، فيما يتعلق بخطورة وجود ذلك الكيان الجرثومة في المنطقة، وما يتعلق باتفاقيات كانت سببا في إطالة أمد وجوده، وإذا كانت الأحداث قد تطورت لصالح تصحيح تلك المفاهيم لدى العالم الخارجي بشكل كبير، وما أسفرت عنه من ذلك الزخم المؤيد للحق الفلسطيني، إلا أن العالم العربي بشكل خاص كان في حاجة إلى وقفة مع النفس والضمير، للحد من تلك الهرولة نحو مزيد من كامب ديفيد، أو مزيد من عمليات التطبيع، التي قادها مخترعو ما تسمى الديانة الإبراهيمية، أو مجموعة أبراهام، وغير ذلك من "افتكاسات" لا يمكن التعامل معها إلا من خلال مسمياتها الصحيحة، وهي الخيانة العظمى، للعروبة والدين والإنسانية في آن واحد.