كتاب عربي 21

إشارات وتنبيهات لقراءة الثورات العربية.. مشاتل التغيير (47)

سيف الدين عبد الفتاح
"هزة عنيفة زعزعت كيانات الأنظمة السياسية في المنطقة"- ويكيميديا كومنز
"هزة عنيفة زعزعت كيانات الأنظمة السياسية في المنطقة"- ويكيميديا كومنز
شارك الخبر
من المهم في هذا المقام أن نتبين خريطة المواقف والتشريح المنهجي لفعل الثورات العربية في شكل تنبيهات وإشارات؛ وفيما يخص هذا الشأن لم يجانب الصواب الدكتور عبد الفتاح ماضي في مقاله الضافي "تحولات الثورة المصرية في خمس سنوات"، عندما قال: "ليس لنظام الحكم القائم في مصر أي مستقبل، ليس فقط لأن الحكم العسكري يكاد ينقرض في دول الجنوب وإنما أيضا لأن نمط السلطة الذي يحاول النظام إقامته يقوم على الإقصاء التام والقمع الشامل في مجتمع لا يزال يعيش الحالة الثورية، بل وتعمقت فيه أسباب الثورة من جديد. كما أن محاولات الجمع بين أدوات الدولة البوليسية من قمع واعتقال والديباجات الديمقراطية من دستور وانتخابات هو جمع بين نقيضين لا يجتمعان في وقتنا المعاصر". ويضيف: "لن تخرج مصر من حالتها الراهنة إلا عندما تمتلك كافة القوى الرئيسية ذات المصلحة في أهداف ثورة يناير إرادتها وتنبذ خلافاتها وتؤسس حالة حوار تستهدف أولا جمع هذه القوى حول قيم ثورة يناير ومطالبها، ثم تتفق ثانيا على النظام الديمقراطي البديل بكافة مؤسساته وقيمه وضوابطه المعروفة وعلى سبل مقاومة الاستبداد والقمع واستعادة الثورة ومطالبها".

وقبل كل ذلك، رفض ومواجهة الأفكار الرائجة لدى فريق من الباحثين في العلوم السياسية الذين يحاولون التهوين من شأن موضوع الثورات، وإطلاق كل أوصاف سلبية تتعلق بالأفعال الثورية، والزعم بأن كل الدارسين للعلوم السياسية يرون أن الثورة عكس الإصلاح، وأنها فعل عنيف متهور غاضب، يتحرك بعواطف جياشة يصعب التحكم فيها، رغم أن هذا الباب في العلوم السياسية من الأبواب المهمة، ولكن في إطار علاقة العالم بالأنظمة السياسية غالبا ما يتغاضى عن ذلك،
علينا أن ننبه الى طبيعة التعاطي مع قضايا الثورات العربية بقدر كبير من مربع "الانفعال/ الافتعال/ الإغفال/ التفسير الزائف"، مما أدى إلى إهمال ضرورات العمق المنهجي
ضمن نموذج عالم السلطان؛ الجامع بين علماء الدين الذين أفتوا أن الثورات والذين أسهموا فيها في حال تأثيم؛ وبين دكاترة السلطان من "الدولتية" الذين انطلقوا إلى أن الثورات لم تجلب استقرارا واستهدفت الدولة ومؤسساتها؛ بين هذا وذاك كان النظر السلبي للثورات التي تتالت في العالم العربي.

كذلك علينا أن ننبه الى طبيعة التعاطي مع قضايا الثورات العربية بقدر كبير من مربع "الانفعال/ الافتعال/ الإغفال/ التفسير الزائف"، مما أدى إلى إهمال ضرورات العمق المنهجي، ذلك أن الثورات العربية التي اجتاحت عددا من البلدان العربية خلال العقد الماضي والتي اصطلح على تسميتها إعلاميا بـ"الربيع العربي" كانت بمثابة هزة عنيفة زعزعت كيانات الأنظمة السياسية في المنطقة، والمنظومات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية. فعلى الرغم من أن ما حدث في العالم العربي كان نتيجة لعوامل كثيرة فرضت ضرورات التغيير، إلا أنه كان مفاجئا وغير متوقع نتيجة التراكمات داخل المجتمعات العربية جراء الفساد السياسي والعناء الاقتصادي والتهميش الاجتماعي.

ربما هيّأ كل هذا بيئة من إصدار الأحكام الجزافية والمواقف المسبقة والتحليلات المبتسرة والمتحيزة، وكأنها كانت تحاكي الأغراض الشعرية القديمة والاستدعاء الذي لم يكن في حقيقة الأمر مضادا لحقيقة التشريح المنهجي لفعل الثورات العربية والاكتفاء بالمواقف الانفعالية.

وبشكل عام، فإن أهم ما يمكن الإشارة إليه في إطار الاهتمام بموضوع "الثورات عامة والثورات العربية على وجه الخصوص"، كواحد من الموضوعات التي فرضت نفسها على الساحتين الإعلامية والعلمية، فضلا عن الساحة الثقافية التي امتلأت بندوات ومؤتمرات ومساجلات حول الثورات العربية كأحد أشكال العقلية السجالية و"اغتيال العقل"، كما يعلمنا برهان غليون من عنوان كتابه؛ هو تحول الموضوع إلى "أسطورة برج بابل" التي تشير إلى فوضى الفهم وحدية المواقف، بما فيها من بلبلة الألسن حتى لو تحدث الناس لغة واحدة.

كما يذكرني كل هذا بقصة "جدل بيزنطة" الذي ظل أهلها يتجادلون في مسألة لا طائل من البحث فيها، والعدو على أبوابهم، فدخلوا في غفلة تنازعهم على لا شيء. كما يذكرني هذا بمناقشات كلامية اتسم بها علم الكلام في مرحلته المتأخرة، حينما تحول عن وظيفته الأصلية في مواجهة "الزنادقة" إلى مساجلات تنازُع لا تورث إلا الفشل، ويذكرني ذلك أخيرا بنمط مواقفنا في خطاباتنا حول قضايا تمس الكيان والبنيان، بنمط التأليف التقليدي والنظم الشعري الذي يحاكي عناصر مضى أوانها ضمن أغراض شعرية متنوعة، وبدت الثورات موضوعا لكل هؤلاء.

وضمن خطابات السجال التي لا تفيد؛ فهذا يتناول الثورات ضمن أغراض "المدح" التي تبالغ في مدح الثورات إلى الحد الذي يضفي صفات عليها ليست فيها بل ربما تحمل داخلها نقيض ذلك، وفي مقابل ذلك يتصدر كل من يحسن أغراض الهجاء الشعرية التي تحول أدنى الخلاف إلى حالة من الخصومة التي لا تندمل أو تستدرك؛ إنه غرض يتأسس على الإسقاط، فهو لا يشعر بقوة الذات إلا عبر هجاء الخصم، ويتأجج الخلاف الصغير حتى يتحول إلى عناصر انقسام واستقطاب خطيرة لأسباب يغلب عليها التسييس أو عالم الأيديولوجيا والأحكام المسبقة. تتكامل الصورة بغرض شعري آخر وهو الفخر والزهو بالفعل الثوري بمبالغات في تضخيم الذات، خاصة مع سقوط رؤوس الأنظمة، ولا بأس بغرض الغزل الصريح والعفيف في للثورات، فحبك للشيء يعمي ويصم، وها هو الغرض الذي تكتمل به خريطة الأغراض الشعرية في معلقات الثورات وشبابها؛ ولم يخلُ ذلك من أغراض الحماسة من دون النظر الى ما تحتاجه الثورات من ضرورات حمايتها واستئناف استراتيجياته في عمليات التغيير استكمالا واستئنافا؛ برز ذلك في إطار حركات عنترية فرضت خطوات أو سياسات أقرب ما تكون للتهور منها إلى الشجاعة والإقدام.

ويأتي الغرض الذي تفتتح به القصائد في نظم الشعر في العصر الجاهلي وهو البكاء على الأطلال، وربما يحسن أن نختتم به قصائدنا على الأرض، فبينما الثورات تعبر عن حالات وخبرات تتحرك صوب عمل وتعبر عن عملية.

نظرية المؤامرة تريح من يتبناها من عناء البحث عن الأسباب واستقصاء الأفكار والمعلومات والتعقيدات التي تحيط بالتقنية موضع الحديث، وأنها تعطي الذات ما يزيد عن حقيقتها. وفي واقع الأمر إن الحديث عن نظرية المؤامرة الذي يتسم بحالة من البساطة وربما التبسيط في التعامل مع عالم الأحداث وتشابكاته، إنما يستدعي ومن أقرب طريق أنماط تفكير يسميها البعض "غير علمية"

هذه الأغراض لم تعكس في الحقيقة إلا عقلية منقسمة وخطابا سجاليا وحوارا أقرب ما يكون إلى حوار الطرشان. في هذا المقام تأتي الثورات كما هي القضايا الكبرى والمفصلية لتقدم حالة نموذجية ضمن سياقات لدراسة الخطاب حولها. فهل يمكننا أن نتخلى وقد أتت علينا الثورات كفعل مرشح للتغيير ونحن في أضعف حال وأوهن مقام، أن نتخلص من "جدل بيزنطة"، أو أعراض "برج بابل"، أو "علم كلام الثورات" أو أغراض شعرية تعبر عن حالة الانفعال الكاذب؟ وهل لنا أن نتخلى عن أنماط التفكير التي طالما نتعامل وتعاملنا بها مع عالم المفاهيم والقضايا الكبرى؟

التفسير المؤامراتي الذي شكل في حقيقته أقسى صور الإحباط تتمثل في أن تعود دول الثورات العربية وشعوبها من الغضب الاحتجاجي المناهض للاستبداد إلى ما دون المربع الأول؛ فتتمنى الغالبية العظمى من جماهير الغضب عودة الاستبداد السابق بعد أن كانت تراه جحيما لا يُطاق. إنها دوّامة يأس لا تبتلع الأحلام فحسب، وإنما تبتلع أيضا إرادة التغيير، مع ما بقي من أحلام تائهة تلفّها الحيرة، وقد تزايدت تصورات المؤامرة وتفسيراتها من الجانبين المؤمنين بالثورة والكارهين لها.

فنظرية المؤامرة تريح من يتبناها من عناء البحث عن الأسباب واستقصاء الأفكار والمعلومات والتعقيدات التي تحيط بالتقنية موضع الحديث، وأنها تعطي الذات ما يزيد عن حقيقتها. وفي واقع الأمر إن الحديث عن نظرية المؤامرة الذي يتسم بحالة من البساطة وربما التبسيط في التعامل مع عالم الأحداث وتشابكاته، إنما يستدعي ومن أقرب طريق أنماط تفكير يسميها البعض "غير علمية" من قبيل: التفكير الخرافي، والتفكير الغيبي، وهو نوع من التجاوز في ربط التفكير الغيبي بالخرافي من ناحية، فضلا عن وضعهما ضمن عناصر التفكير غير العلمي من ناحية أخرى.

فهل لنا أن نتعلم درس الثورات والتحديات المتعلقة بعمليات التغيير المرتبطة بها، أم سيكون التغيير القادم علينا وليس لنا؟! ونحن نتجادل في علم كلام عقيم وسجال مقيم؛ فإن أهم درس في الثورات هو في القدرة على معرفة عناصر مناهج التفكير والتغيير والتسيير والتدبير والتأثير العليلة والكليلة، والتي استمرأنا التعايش معها زمنا وصارت ضمن معامل الاستقطاب؛ والتي قد تكون فوتت فرصة الاستثمار الفاعل والعادل لها. هذه الأحوال جميعا ومناهج التفكير المختلة ميزانا وفعلا ربما تكون أهم أسباب تراجع تلك الثورات؛ إنِ التعلم في مشاتل التغيير من السلبي فنعتبر من خبراته أو الإيجابي فنستثمر في قدراته.

x.com/Saif_abdelfatah
التعليقات (0)