كتاب عربي 21

شارع عربي بلا قيادة

"إنها الاستهانة المطلقة بالمنطقة وشعوبها، وهذا سر غطرسة ترامب"- جيتي
علمنا درس الطوفان، بل ذكرنا أمرا نعرفه أن الأنظمة العربية تمقت فلسطين وشعبها، وقد ساعدت في قتله بما استطاعت، لكن هذا الشعب عاش وثبت في أرضه، وها هو يتعرض إلى امتحان جديد بالتهجير والأنظمة تتفرج. لكن ليست الأنظمة وحدها من يتابع ويصمت أو ربما يتشفى، إن الشوارع العربية ليست بعيدة عن الأنظمة. وقد تابعت حرب الطوفان من مقاعد مريحة، والسبب عندي ليس كفر الشوارع الشعبية بالقضية بل لأن هذه الشوارع تفتقد إلى القيادة. فالفرصة التي أتاحها الربيع العربي انتهت إلى فضيحة فكرية وسياسية للنخب المؤهلة (نظريا) للقيادة، لقد كانت النخب التي تصدت لمهمة ترسيخ الحريات تائهة وغبية، وقد أكدت لدينا ضعفها وهوانها بتخليها عن إسناد الطوفان ونراها تستسلم لنزوة ترامب بالتهجير. لم يكن لدينا أبدا أمل في الأنظمة، لكن خيبتنا في النخب لا طب لها.

ترامب لن يشفق على العرب

من هوان النخب العربية ما لاحظناه من استبشار بنجاح ترامب في العودة إلى رئاسة البيت الأبيض. حفلت السوشيال ميديا العربية بالبشائر عن شبه نبي سيغير المنطقة، هذا التفاؤل نفخ في صورة ميلاد نواة لوبي عربي يسير في موكب ترامب، وقد حُمّل اللوبي الناشئ (المتوهم) مسؤولية تتجاوز قدراته حيث هو. فصناعة لوبي ليست تأليف جمعية كروية فما بالك بتحوله إلى لوبي مؤثر في السياسات الخارجية لشرطي العالم، وهذا لعمري إحدى أوضح علامات الفشل والتواكل على قوة خارجية يهمها أولا خدمة بلدها ومصالحه ونفوذه في العالم. أين هذا اللوبي القريب من ترامب من قضية التهجير؟ لا صوت لهم فالأمر أقوى منهم.

حديث ترامب عن التهجير كشف كم الاحتقار والاستهانة بالحكم العرب، وهو يحمل وإدارته ودولته (مثل كل حكومات الغرب الأوروبي) صورا واضحة عن الشارع العربي وعن النخب العربية، فهي لم تصنع أغلب هذه النخب وتربيها على عينها فحسب، بل استدركت ما شذ عن طوعها فطوعته أو حيدته

حديث ترامب عن التهجير كشف كم الاحتقار والاستهانة بالحكم العرب، وهو يحمل وإدارته ودولته (مثل كل حكومات الغرب الأوروبي) صورا واضحة عن الشارع العربي وعن النخب العربية، فهي لم تصنع أغلب هذه النخب وتربيها على عينها فحسب، بل استدركت ما شذ عن طوعها فطوعته أو حيدته، لذلك لا تكنّ للنخب (مثل الأنظمة) أية درجة من التقدير أو الخشية ولا يمكن أن تؤلف معها سياسات معقولة تجد فيها الشعوب بعض الفائدة. إن ترامب والغرب معا في موضع الأمر الصارم وانتظار الطاعة التامة من النخب الحاكمة وعلى النخب التي تزعم المعارضة وتزايد على الأنظمة بحب فلسطين.

دليلنا على ذلك عندما انفجر الشارع العربي بمطالب الحرية والديمقراطية عمل الأمريكي والغربي عامة على تفريغ هذا الانفجار الشعبي من مضامينه ومطامحه المشروعة لما رأى فيها من تهديد لمصالحه الآنية والبعيدة المدى، ولقد رأى النخب العربية تعمل معه ضد شعوبها. وهو يحتفظ في دفاتره مثلا بأسماء نواب منتخبين سافروا من تونس إلى البرلمان الأوروبي يطالبون بحل المجلس التأسيسي الذي يسيطر عليه إسلاميون. إن مثل هذا المشهد والذي نجزم أنه تكرر في مواقع كثيرة يسمح لترامب بأن يقود المنطقة ولا يقدم أية علامة احترام لهذه الشعوب ولنخبها. من هذه الزاوية نرى الشارع العربي بلا قيادة وطنية أو قومية ذات مشروع سياسي تحرري يربط الطوفان بالربيع العربي، ويمكن أن يفاوض مع شرطي العالم على مصلحة وطنية.

الفشل والأسئلة المصيرية؟

هذا الموضع الدوني يفتح باب الأسئلة عن الأسباب والمصائر. لقد اختارت النخب الحاكمة بكل ألوانها الأيديولوجية منذ الاستقلال البقاء تحت جناح الدول المهيمنة تقود عملية تنموية بالحد الأدنى، وحصلت بذلك مكاسب أقل بكثير من طموحات شعوبها ونشأت في هذا الوضع معارضات مختلفة يسارية وقومية وإسلامية. أعلنت كل هذه المعارضات مشاريع/ أفكار حكم طموحة، لكنها لم تبلغ بها مبلغ افتكاك السلطة من أنظمة الحد الأدنى المعيشي، ففشلت في المعارضة وأمكن تدجينها وتحويل أغلبها إلى ملاحق للأنظمة الحاكمة، ولكن الفشل الأكبر كان في زرع فتنة عميقة بينها منعتها من التكاتف والعمل المشترك ضد الأنظمة لتجاوزها ووضع أفكارها الطموحة موضع التنفيذ.

لدى الجميع علم بأن الأمريكي والأوروبي يسمع هذا المونولوج ويواصل عمله ولعله يبتسم مطمئنا، كأن لم تحدث ثورة ولم تتبين القوة الكامنة في الشعوب. إنها الاستهانة المطلقة بالمنطقة وشعوبها، وهذا سر غطرسة ترامب

هذه الفتنة هي الخلاف الأيديولوجي بين التيارات العلمانية بمكوناتها اليسارية والقومية والليبرالية من ناحية، والتيار الإسلامي بمسمياته المختلفة من ناحية ثانية. وقد كشف لنا الربيع العربي عمق هذه الخلافات، ورأينا في التجربة القصيرة الأمد للديمقراطية أن هذه المعارضات تصارعت مع بعضها أكثر مما تصارعت مع منظومات الحكم، وهو ما سهّل الالتفاف على الثورات وتفريغها من مضامينها ثم عودة المنظومات إلى مواقعها، وإعادة تيارات المعارضة إلى مواقعها الدائمة كمعارضات فاشلة تستجدي ترامب أن يغير المنطقة ويقدم لها حلولا.

السؤال الذي لم يطرح أصلا بله أن تتم الإجابة عليه هو هل كان يمكن أن تتحالف المعارضات من اليسار والإسلاميين أو اليمين ضد منظومات الحكم؟ الحقيقة الماثلة الآن هي أن هذا السؤال قد فات أوانه. لقد عدنا إلى ما قبل الربيع العربي، منظومات الحكم بالحد الأدنى المعيشي في مواقعها ومعارضة يسارية وليبرالية تتحرك في الهوامش المتروكة لضرورات الدعاية بوجود معارضة (أو مسرحية وضع ديمقراطي)، وإسلاميون مطاردون وشعوب هائمة بلا قيادة تبحث عن منافذ هروب تعبر عنها بقسوة عمليات الهجرة السرية إلى أوروبا. لقد فقدت الشعوب ثقتها فيمن تحدث حديث المعارضة قبل الربيع العربي وتصدى للقيادة بعده وفشل، وهذه ثمرة مرة الطعم للربيع العربي.

إن لسان الشوارع العربية الآن ينطق بالشماتة في الذات وفي الآخرين في مونولوج مازوشي طويل. ولدى الجميع علم بأن الأمريكي والأوروبي يسمع هذا المونولوج ويواصل عمله ولعله يبتسم مطمئنا، كأن لم تحدث ثورة ولم تتبين القوة الكامنة في الشعوب. إنها الاستهانة المطلقة بالمنطقة وشعوبها، وهذا سر غطرسة ترامب.

خذلت النخب معركة الحريات في أقطارها ونافقت حرب الطوفان بالبيانات الافتراضية وهي ترى معركة التهجير مفتوحة وتسمع منها قولا عجيبا في مقاهي تونس مثلا. نعم هناك من يرى الآن التهجير مفيدا لأنه سيقضي على البيئة التي تعيش منها حماس، فعند كثير من النخب القضاء على حماس مقدم على معاداة الكيان. في غياب قوى إسلامية لن يقود أحد شارعا عربيا ضد التهجير. قاتل محمد مرسي هو نفسه قاتل السنوار، وترامب يعرف ويضحك ويلقي الأوامر..