في شوارع ويستمنستر وسط لندن، وبين الزحام
الصامت للمدينة، لفتتني شرائط حمراء معلّقة على الأعمدة والأسوار. ليست إعلانا تجاريا
ولا ملصقا سياسيا؛ بل إشارة رمزية مكثفة، عفوية في حضورها، قوية في معناها، أعادت إلى
الواجهة وجوها غابت طويلا خلف جدران السجون:
الرهائن الفلسطينيين الذين اختطفهم الاحتلال
من مستشفياتهم وبيوتهم، وتركهم بلا محاكمة، في مشهد لا يشبه سوى منطق الغابة.
هذه الشرائط بدت كأنها محاولة فردية، أو سلسلة
مبادرات صغيرة، تحاول أن تقول للعالم شيئا بسيطا ومهملا في آن: إن ملف الرهائن الفلسطينيين
ما يزال غارقا في الظل، رغم أنه أحد أكثر الملفات امتلاء بالقصص الإنسانية، ولأنه يضم
آلاف الأشخاص الذين جرى اقتلاعهم من حياتهم بلا تهمة وبلا مسار قضائي واضح.
هذه الشرائط بدت كأنها محاولة فردية، أو سلسلة مبادرات صغيرة، تحاول أن تقول للعالم شيئا بسيطا ومهملا في آن: إن ملف الرهائن الفلسطينيين ما يزال غارقا في الظل، رغم أنه أحد أكثر الملفات امتلاء بالقصص الإنسانية
ومن بين نحو 9,100 معتقل فلسطيني، يُقدّر أن ثلثهم تقريبا يُعاملون فعليا كرهائن؛ خُطفوا ولم يُقدَّم
لهم أي حق قانوني أو ضمانة قضائية.
لغة يجب أن تستعيد معناها
لفترة طويلة جرى استخدام كلمة "أسير"
بوصفها توصيفا عاما، لكن ما يقوم به الاحتلال منذ سنوات لا يشبه الاعتقال، بل أقرب
إلى الاختطاف: أشخاص يُسحبون من بيوتهم أو من غرف العلاج، ويختفون لفترات غير محددة،
بلا لوائح اتهام، ولا محاكمات، ولا حتى الحد الأدنى من الإجراءات القانونية.
والأرقام وحدها تكشف حجم المأساة:
• 3,544
معتقلا إداريا بلا محاكمة.
• 400
طفل.
• 53
امرأة.
• 16
طبيبا.
• واستشهاد 117 رهينة خلال العامين الأخيرين، بالتزامن مع الإبادة
في غزة.
هؤلاء لا يمكن وصفهم إلا بأنهم رهائن، لأن
لغة القانون لا تنطبق عليهم، والاحتلال نفسه يتعامل معهم على هذا الأساس، فضلا أن وجود
هذه الدولة من الأساس غير قانوني.
الأحمر.. لونٌ يذكّر لا يجمّل
اختيار اللون الأحمر لا يحتاج شرحا مطولا،
هو اللون الذي يعبّر عن الدم الذي سال، وعن الظلم الذي وقع، وعن الألم الذي لم يتوقف.
وحين تتدلى الشرائط على أعمدة مدينة مثل لندن، فإنها تحاول، ولو بصمت، أن تنقل للعالم
سؤالا مباشرا: كيف يمكن لآلاف الأشخاص
أن يُختطفوا هكذا، ويظل العالم عاجزا عن رؤيتهم؟
ليس المطلوب أن يقود كل إنسان
حملة، ولا أن
يتحول الجميع إلى ناشطين؛ يكفي الاعتراف بأن هذا الملف يحتاج إلى تبنٍّ أوسع، وإلى
تفاعل حقيقي، لأن خلف كل رقم إنسان يعيش عذابا يوميا، وأسرة تبحث عنه، وأطفالا يكبرون
في غيابه.
قصص معلّقة على الأعمدة.. كي لا يسقطها النسيان
الشرائط الحمراء أعادت إلى مخيلتي تلك القصص
التي تفيض بالتفاصيل الموجعة:
• الطفل
الذي أُخذ من فراشه لأن الجنود اعتبروا أنه "يشكل تهديدا"..
• المرأة
التي اقتيدت أمام أبنائها..
• الطبيب
الذي اختفى من غرفة العمليات ولم يعد..
• أولئك
الذين تعرضوا للتعذيب والإخفاء القسري..
• وحكايات
الاغتصاب والانتهاكات التي كشفت عنها تقارير دولية حديثا..
قصص لا تحتاج إلى مبالغة، فالحقيقة فيها كافية
لإرباك أي ضمير إنساني. وقد ذكّرني ذلك بقول ستيف بيكو: "أعظم سلاح يمتلكه الظالم هو عقل المقهور"، وهذه الشرائط تبدو
كأنها محاولة بسيطة لتحرير هذا العقل.
حين يصبح الإعدام احتفالا
ملف الرهائن الفلسطينيين بحاجة إلى من يتبناه، وإلى من يجعله حاضرا في الفضاء العام، لأنه ملف مكتظ بالألم، ومثقل بالانتهاكات، ومع ذلك ما يزال الأقل تناولا دوليا
لم يكن من السهل تقبّل أن يحتفل وزير الأمن
القومي لدى الاحتلال، إيتمار بن غفير، داخل الكنيست بإقرار قانون يتيح إعدام الأسرى
الفلسطينيين، لكن الأكثر فزعا هو أن تتحول هذه اللحظة إلى مشهد عابر في الأخبار اليومية،
وكأن ما يحدث مجرد "اختلاف سياسي" لا أكثر.
حين تُشرّع دولة قتل من اختطفتهم أصلا بلا
محاكمة، فهذا يعني أن السجن لم يعد مكانا للاحتجاز، بل محطة في سلسلة تنتقل من الخطف
إلى التعذيب إلى القتل.والأرقام
الأخيرة عن الشهداء داخل السجون تثبت أن الأمر ليس تهويلا، بل حقيقة تتسع يوما بعد
يوم.
خاتمة: إنقاذ الذاكرة قبل إنقاذ الجسد
الشرائط الحمراء لا تعِد بتحرير أحد، وليست
بديلا عن الجهد القانوني أو السياسي. لكنها تنجح في شيء جوهري: أن تُعيد
الوجوه إلى الواجهة، وأن تمنع سقوط القصص في العتمة.
ملف الرهائن الفلسطينيين بحاجة إلى من يتبناه،
وإلى من يجعله حاضرا في الفضاء العام، لأنه ملف مكتظ بالألم، ومثقل بالانتهاكات، ومع
ذلك ما يزال الأقل تناولا دوليا.
ربما لا تملك الشرائط قوة تفكيك القضبان، لكنها
تملك القدرة على تذكير العالم بأن خلف كل رقم إنسان ينتظر أن يُنقذ من الاختفاء.
العدالة تبدأ بأن نرى.. وما المانع أن تكون إحدى الخطوات المهمة على
طريق التغيير بخيط أحمر صغير يتدلّى على عمود في مدينة بعيدة؟