كتاب عربي 21

الطيب والشرير والفيدرالي

أحمد عمر
"حديثي سياسي، وليس وقوفا أو جلوسا على الأطلال"- CC0
"حديثي سياسي، وليس وقوفا أو جلوسا على الأطلال"- CC0
على رسلكم أيها السادة: حديثي سياسي، وليس وقوفا أو جلوسا على الأطلال.

شاهدتُ في صباي فيلما سوفييتيا صُنع تقليدا لأفلام "الويسترن"، وكنا مذهولين بالكاوبوي، البطل الوحيد، الذي ليس له صاحب سوى جواده، يجندل المجرمين، ويغنم الجوائز، يجول في البراري المقفرة بين نباتات شوكية عملاقة تناطح السحاب، فتبرز لعينك فجأة جمجمةُ بقرة ماتت حسرة.. فخُدِعنا بالفيلم السوفييتي خُدعةَ من اشترى خبزا مدهونا بدبس البندورة على أنه "بيتزا". والبيتزا طعام عربي أصله "اللحم بعجين"، ويُسمّى في سوريا "الصفايح" أيضا، وهي صفحات مدورة من العجين منقوشة بحبيبات من اللحم المتبَّل بدبس الرمان أو خلائط النبات، فصارت ماركة إيطالية عالمية.

كان مراهقون روس من قريةٍ نائية يركبون الخيول ويُطلقون صيحات الغزو، ويحملون مسدسات غريبة، ليست مثل مسدسات الويسترن ذات المخزن الدوّار، ولا تصلح للتركين في جيب المسدس الجلدي المتدلي من الحزام. كان الفيلم مليئا بخيول قصيرة العنق؛ لم يكن ويسترن قط.

نذكر أن الرئيس بوريس يلتسين كان مسحورا بأفلام الويسترن، وأنه حال زيارته أمريكا وضع قبعة كاوبوي وتمنطق بحزام كاوبوي، وجعل يُقلّد أبطال الويِستِرن مثلنا كما كنا نفعل في أيام الصبا، وأطلق النار على الأشباح وجندلهم، ومات سعيدا بعد أن شبع من الدنيا بتلك الرحلة، فنال الجائزة!

أعدنا مرة تمثيل فيلم "الطيب والشرس وأخو الشليتة"، اخترتُ لنفسي دور "الطيب"، أما صديقي "دلو" فأخذ دور "الشرس"، وجعل يعذّب "أخو الشليتة" عذابا نُكْرا، حتى اعترف بموضع كنز "الصور والدَّحَل والسكاكر". وكدنا أن نشنقه لولا أننا لم نعثر على شجرة ميتة نعلقه عليها ولا على حبل. مطايانا الحمير، وشرابنا العرقسوس، ومسدساتنا "النقائف"، وطلقاتنا نوى الزيتون.

على الشاشات يطالب بالفيدرالية واللامركزية في سوريا فورا، وهي خارجةٌ من حرب أتت على الأخضر واليابس، ولا يكاد يخلو بيت مدمّر من شهيد أو مفقود

تُوصَف أفلام الأعراب بأنها "ويسترن عربي"، فهم مسلحون بالبنادق ويركبون الخيول، وهما شملتان من شمائل الكاوبوي، سوى أنهم يرعون النوق أو الأغنام، وأن مثيل آلة الطرب التي ينفخ فيها السيد هارموني في فيلم "حدث ذات مرة في الغرب" عند العرب هي "الربابة" أو "المجوز". والهارموني (أصله عربي من الحرم) هو الشاعر، الصالون الغربي (وهو لفظ عربي) هو "الشِّق"، و"الشريف" في أفلام الكاوبوي (لفظ عربي أيضا) هو شيخ القبيلة. وشتان بينهما: فالعرب يميلون إلى الأناة لا إلى العجلة، ويقولون الأشعار قبل المنازلة، ويموتون شوقا إلى الحبيبة، ويتنافرون بالأشعار لا بالنار، ويكون عروة قد خطب جواهر ووافق أبوها لكن ابن عمّها أقسم أن يقتل الخاطب. ولن نرى في هذه الأفلام مشهدا لابن عمّها وهو يستحم في حوض خشبي ويُدخّن لفافة غليظة مثل عود القصب.

كان الفيلم المصري "فيفا زلاطا" الكوميدي لفؤاد المهندس وشويكار، مستوحى من الفيلم الأمريكي "فيفا زاباتا!" تدور أحداثه الكوميدية حول شخصية "زلاطا" الذي يهاجر إلى المكسيك ويتولّى حكم المدينة، ثم تُحاول ابنته الانتقام لمقتله. ومثله فيلم "رحلة إلى المكسيك" لدريد ونهاد، وفيه جوادٌ وحيد كثيرُ الزينة هو جوادُ أعياد، يركبه غوّار لنُصرة ابنة أخته وتزويجها من حبيبها.

لم يكن العرب في السينما يتخيلون قصة بلا حبّ، حتى في الأفلام الإسلامية مثل "فجر الإسلام" و"انتصار الإسلام"؛ لا بدّ من قصة حبّ: مكيٌّ يهوى صبية من يثرب مثلا، في حين أن أفلام الكاوبوي خالية من الحب؛ قتل سريع، وحصان ذكي، وقبر محفور بسرعة، وحانوتي وكنيسة نائية. ليس لأفلام الويسترن العربية ذلك الاحتفال بالخيل كما في الويسترن الأصلي، مع أن شعر العرب القديم يحتفل بالنوق والخيول احتفالا عظيما؛ فالجواد بطل القصيدة الثاني بعد الحبيبة: "مكرٍ مفرٍّ مقبلٍ مدبرٍ معا".. "الخيل والليل".

أرى أحيانا فيفا زالاطا فيدراليا بمسدس خفي، ليس على الخصر، إنما في الفم، على الشاشات يطالب بالفيدرالية واللامركزية في سوريا فورا، وهي خارجةٌ من حرب أتت على الأخضر واليابس، ولا يكاد يخلو بيت مدمّر من شهيد أو مفقود، يبارز البطلُ المغتربُ المذيعَ الشرسَ، بذكر مصطلحاتٍ أو أسماءَ تُذكّر بيأجوج ومأجوج، مثل؛ "وستفاليا" و"البوندستاغ" و"سويسرا".

أما الطيب فهو الشعب يا الربع!

x.com/OmarImaromar
التعليقات (0)