قضايا وآراء

التاريخ لا يُقرأ من لوحة الغطرسة الصهيونية

"التركيز على فضح طبيعة الإجرام الصهيوني وإرهابه، وعزله وحصاره، والمطالبة بمحاكمته أمام العدالة الدولية"- جيتي
تمر العين سريعا على أخبار عربية، فتقع على بؤس لم يتبدل في المشهد الفلسطيني، جرائم حرب وإبادة تستهدف كل شيء، وتستمر على نفس الوقع من الانحطاط والانحدار في المواقف، وفي بقية فلسطين يتشاطر المستعمرون في الضفة والقدس مع جيشهم المجرم في غزة، جرعة قوية من الإرهاب، فيكرر سموتريتش وبن غفير ونتنياهو مقولات ثابتة في العقل والسلوك الصهيوني، عن إبادة "الأغيار"، والتفاخر بتحقيقها في غزة. وما تحقق من نتائج للعدوان على غزة والضفة وإيران وسوريا ولبنان، دفع لُعاب العنصرية الصهيونية إلى السيلان نحو وحشية أكثر وتطرف في الضفة والقدس، وبعدم الاعتراف بوجود الشعب الفلسطيني وبحقه، والإسراع بالسيطرة والاستيطان والتهجير لدفن أي كيان فلسطيني يمكن البناء عليه أو الحديث عنه مستقبلا.

بعد كل هذا، لا ندري أين وكيف ستتحقق رغبات إسرائيل والولايات المتحدة لشرق أوسط جديد، باتباع وصفة "الاتفاقات الإبراهيمية" التي تُبنى عليها آمال كبيرة من تل أبيب وواشنطن، وبعض الواهمين العرب، فإذا انتقلنا لنقطة متابعة ما تحقق سابقا، على صعيد تصديق الخدعة الصهيونية الأمريكية لـ"السلام" لنعرضها لمحاكمة العقل والواقع على الأرض، والاقتراب من أي منجز يمكن ملامسته ولو كان ضئيلا، فلا يجد العاقل من هامشية وهشاشة ما تحقق، سوى النتيجة "الطبيعية" لهذا البؤس المعمم عربيا وفلسطينيا والذي يفتقد حتى لكفاءة المساومة، أو إلزام الخصم بشروط "الصفقة" أو السلام والتطبيع..

خديعة الرئيس ترامب بالحديث المستمر عن اقتراب الحل في غزة ووقف لإطلاق النار، واستعداد البعض للانخراط في التطبيع مع وحشية المحتل، بعد القضاء على المقاومة، تمهيدا لتنصيب زعامة الغطرسة والقوة الصهيونية باستباحتها كل المنطقة، هي خديعة كل الإدارات السابقة للعرب والفلسطينيين، وهي لم تعد اليوم كذلك لما فيها من وضوح

من المخجل حقا أن يبتلع بعض النظام العربي الطعم الصهيوني الأمريكي، بعد كل هذه الجرائم الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني، وتركيز الجهد والحديث والعمل، على إزالة "بؤرة التوتر" المتصلة بمقاومة الاحتلال. والمشكلة ليست بحاجة لشرح، 75 عام من نكبة واحتلال وما أفرزته على الأرض، فجوهر القضية الاحتلال والمشروع الصهيوني، والتطبيع معه على أساس إمكانية قبول ما غنمه من حقوق في الأرض والتاريخ، والاكتفاء بما بين يديه من إنجازات أو غنائم. لكن تجربة العقود الماضية، التي كان عمودها الفقري في المقولة الأكثر عمومية التمسك "بخيار السلام" كسلاح مقابل عربدة وغطرسة صهيونية، وتوسيع للعدوان وارتكاب جرائم حرب وإبادة وعدم اعتراف بالحقوق والقانون الدولي، يفترض أن تُحدث صدمة كبرى لصحوة البعض البائس والمفجع، بحيث أنه لم يترك بين يديه من سلاح ذو قيمة لمواجهة عدوّه.

فخديعة الرئيس ترامب بالحديث المستمر عن اقتراب الحل في غزة ووقف لإطلاق النار، واستعداد البعض للانخراط في التطبيع مع وحشية المحتل، بعد القضاء على المقاومة، تمهيدا لتنصيب زعامة الغطرسة والقوة الصهيونية باستباحتها كل المنطقة، هي خديعة كل الإدارات السابقة للعرب والفلسطينيين، وهي لم تعد اليوم كذلك لما فيها من وضوح الدعم والإسناد للمشروع الاستعماري الصهيوني.

وهنا سؤال صعب يطرحه المرء على نفسه، حين يراقب معظم الموقف الفلسطيني ومن خلفه مواقف عربية ربطت كل ما يجري بسردية المحتل عن إزالة عقبة "المقاومة" من طريق رغد التطبيع القادم: هل سينتهي الإرهاب الصهيوني المنتشر على طول الأرض وعرضها في فلسطين، وصولا لسيادة عربية مستباحة؟ ألم يكن واضحا للطرف العربي والفلسطيني الرسمي الموقف الأمريكي، بعد تجربة طويلة ومفضوحة من الاستفزاز والتزوير دفاعا عن الإرهاب الإسرائيلي وتبريره وحمايته؟

لم يعد يسمع الأمريكي والإسرائيلي من ديباجة السياسة العربية كلاما واضحا وصريحا، بما يخص القضية الفلسطينية، اقتصرت السياسة في الآونة الأخيرة على إظهار ما يدور في الغرف المغلقة، أي جهر مقترن بالخذلان الكبير الذي تعيشه القضية على وقع الجرائم المستمرة، فلا تسمع نفيا عربيا مباشرا لما يدلقه ترامب من خطط بشأن فرض حليفه الصهيوني زعيما بالقوة، وبالتطبيع مع إرهابه، ولا كلاما فلسطينيا مباشرا بشأن مراجعة كل الرهانات والأوهام السابقة. قبل أيام قال مصدر سوري في تصريحات لقناة إسرائيلية إن بلاده وإسرائيل ستوقعان اتفاقية سلام قبل نهاية العام 2025، وأنها ستتضمن تطبيعا كاملا ستكون الجولان فيه "حديقة سلام". كما لا بيان عربيا يعيد التأكيد على ديباجة القرارات الدولية بشأن سورية الجولان، والتأكيد على حدود الرابع من حزيران/ يونيو عام 1967 لأي حل متعلق بمستقبل الأراضي الفلسطينية المحتلة.

العدوان الخطير التي يجري في مدن الضفة والقدس، يزامل وحشية الإبادة الجماعية في غزة، وهنا، كما في السابق، لم يطلب الفلسطينيون من عربهم نجدة عسكرية، حتى لا يكرر البعض نموذج الإبادة المطلوب في غزة، لكن يطالبون بالتركيز على فضح طبيعة الإجرام الصهيوني وإرهابه، وعزله وحصاره، والمطالبة بمحاكمته أمام العدالة الدولية، وهذا أضعف الانحياز لمبادئ العدالة والقانون الدولي والإنساني، لمن يعتنق ممارسة السياسة المحكومة بعدالة وأخلاق، وليس بخلط أنصاف الحقائق المفلترة سلفا.

من صفق للهزائم التي مضت وللهزائم القادمة، سيبقى مصدوما من أيام هاربة من تاريخ الوهم الذي يحاول الانتماء له والعيش في ظله. والتاريخ والمجتمعات حركة مستمرة، والمستقبل مفتوح دوما على كل الاحتمالات، والتاريخ العربي والفلسطيني لن يُقرأ أبدا من لوحة الغطرسة الصهيونية ولا من عبرنته وتزويره

لليوم وبعد كل هذا الإرهاب الصهيوني، الذي يواجه رفض وغضب شوارع غربية وعالمية، لم تشعر المؤسسة الصهيونية بضغط أو خطر يدفع إسرائيل للتراجع عن ممارسة الإرهاب وارتكاب الجرائم، فرغم كل الشواهد وحقائق الإبادة الجماعية وجرائم الحرب، هناك على أطراف العالم العربي وداخله انهيار للمواقف، ولحظة ترقب استسلام فلسطيني لتتويج عصر "السلام" الصهيوني، لحظات مرت من قبل في محطات كثيرة من كامب ديفيد 1979، وتوجت في أوسلو 1993، ووادي عربة قبل أكثر من ثلاثة عقود، وهي حقائق تكشفت وتعري عن هذه "المعجزة" الكثير.

فكل ما يُطرح من أعجوبة التطبيع، الملحق بمعجزة "السلام" والمقدم إسرائيليا وأمريكيا على أنه مفتاح الفرج وسبب للتفاؤل بالمستقبل، يتم فوق بالأعالي، حيث التجريد والتسطيح لكل شيء، للعدالة وللقانون وللحق، بعيدا عن بديهيات التاريخ والواقع، فظن من فرح بمعجزة أمريكا وأعجوبة الغطرسة الصهيونية أن أرض الواقع الذي يتميز بصرامته وقسوته لن يصيب هذه العناصر بالتحلل، لكنها عادت لسابق عهدها وتكشفت المعجزة عن مسخ ميت في المهد.

أخيرا، المشغولون بنسيج الكلام عن التطبيع الإسرائيلي مع هذا النظام العربي وغيره، وتفجير لغة الإرهاق من القضية الفلسطينية، فقط ندعوهم لمراقبة مواقف شعوب ونخب غير عربية تجاه نظام الفصل العنصري الصهيوني، وجرائم الحرب والإبادة الجماعية، ومطالبهم بعزل وحصار إسرائيل باعتبارها كيانا استعماريا إحلاليا في المنطقة، وخطرا على السلم العالمي. فترديد نبرة وسردية صهيونية، تقتل روح الإنسان ولا توقظ من عقله شيئا في فضاء الظلم والقهر، تبقى نبرة محاصرة ومعزولة ومتفسخة، فمن صفق للهزائم التي مضت وللهزائم القادمة، سيبقى مصدوما من أيام هاربة من تاريخ الوهم الذي يحاول الانتماء له والعيش في ظله. والتاريخ والمجتمعات حركة مستمرة، والمستقبل مفتوح دوما على كل الاحتمالات، والتاريخ العربي والفلسطيني لن يُقرأ أبدا من لوحة الغطرسة الصهيونية ولا من عبرنته وتزويره.

x.com/nizar_sahli