ملفات وتقارير

شبكات تهريب الذهب في دارفور.. الوجه الاقتصادي الخفي للحرب السودانية

الدعم السريع وشبكات إماراتية وروسية تتحكم في صادرات الذهب والنفط بالصراع المستعر - جيتي
في قلب الصراع السوداني المستعر منذ أكثر من عامين، يتكشف وجه آخر للحرب لا يقل خطورة عن القتال الدائر في الميدان٬ نهب منظم لثروات البلاد المعدنية والنفطية، على رأسها الذهب الذي تحول إلى وقود مالي يغذي آلة الحرب.

بحسب تقارير إعلامية دولية ومصادر محلية موثوقة، تصاعدت خلال الفترة الماضية عمليات تهريب الذهب من إقليم دارفور ومناطق التعدين الأخرى، عبر شبكات معقدة تديرها مليشيات الدعم السريع وشركات مرتبطة بمرتزقة روس، بينما تغض أطراف داخل الدولة الطرف عن هذه الأنشطة أو تشارك فيها ضمنيا.


مهابط طيران للتهريب لا للمدنيين
رصد مواطنون في إقليم دارفور تزايد نشاط تهريب الذهب من مناطق الإنتاج عبر مهابط طيران أُنشئت خصيصا لهذا الغرض.

وبحسب شهادات محلية، استقدمت قوات الدعم السريع شركات هندسية متخصصة لرصف الطرق المؤدية من مناطق التعدين إلى تلك المهابط السرية، لتسهيل نقل الذهب بواسطة المروحيات نحو دول الجوار.

تشير التقارير إلى أن المليشيات لم تكتف بإنشاء المهابط، بل منحت بعض الشركات والتجار تراخيص تعدين غير قانونية، ما جعلها تتحكم في نحو 65% من صادرات الذهب السوداني حتى قبل سقوط نظام عمر البشير عام 2019.

وفي عهد الحكومة الانتقالية برئاسة عبد الله حمدوك، توسع نفوذ هذه الشبكات حتى باتت المليشيا تمنح تصاريح التعدين وتتحكم في عائداته، بينما يهرب نحو 70% من إنتاج البلاد إلى الخارج تحت سمع وبصر بعض الأجهزة الرسمية.

بحسب مختصين في قطاع التعدين، ازدهرت عمليات تهريب الذهب في السنوات الأخيرة مع اشتعال الحرب، لتشمل دول الجوار المباشر والإقليمي مثل تشاد وأفريقيا الوسطى وكينيا وأوغندا، بينما تمثل الإمارات المحطة النهائية لمعظم الذهب المهرب.

وتجاوزت عمليات التهريب الوسائل التقليدية إلى استخدام رحلات طيران خاصة تقلع من مواقع الإنتاج مباشرة في سرية تامة، ما يشير إلى كميات ضخمة تنقل بأوامر عليا وتراخيص تمنع اعتراضها.


رحلات سرية والروس في قلب الشبكة
بحسب تقارير إعلامية دولية، أبرزها تقرير بثته شبكة سي إن إن في تموز/يوليو 2023، فإن روسيا استولت على كميات هائلة من الذهب السوداني بلغت قيمتها مليارات الدولارات، استخدمتها لتعزيز احتياطاتها من المعدن الأصفر.

التقرير ذاته كشف عن 16 رحلة جوية سرية من الخرطوم وبورتسودان إلى مطار اللاذقية في سوريا، حيث تمتلك موسكو قاعدة جوية رئيسية، ما يعزز فرضية أن شبكات روسية تشارك في تهريب الذهب ضمن تفاهمات مالية وعسكرية مع مليشيا الدعم السريع.

كما تشير معطيات ميدانية إلى إنتاج طن من الذهب أسبوعيا من مواقع التعدين في العبيدية شمال السودان، وأم دافوق جنوب دارفور، وتلودي في جنوب كردفان، تنقل جميعها عبر مهابط غير مسجلة لدى هيئة الطيران المدني.


تعمل شركات روسية، بينها "ميرو غولد" وواجهات تجارية أخرى لمرتزقة "فاغنر"، جنبا إلى جنب مع شركة "الجنيد" التابعة لقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي).

تتركز عملياتهم في مناطق التعدين بولايات دارفور وجنوب كردفان، حيث أقاموا معامل استخلاص مزودة بأحواض مادة "السيانيد" عالية السمية، التي تتيح استخراج الذهب بكفاءة تفوق الطرق التقليدية بتسع مرات.

وتنقل السبائك المنتجة في عربات عسكرية تحت حراسة مشددة إلى مهابط طيران ميدانية مثل مهبط تلودي، ثم إلى وجهات مجهولة. مصادر محلية أكدت أن هذه الشركات الروسية تسيطر على مهابط ترابية قرب مواقع الإنتاج، تنقل منها كميات ضخمة من الذهب مباشرة عبر الجو لتجنب نقاط التفتيش أو أخطار الطريق البري.


سنقو وجبل عامر... مناجم الحرب
وفي دارفور تحديدا، يعد جبل عامر في شمال الإقليم أحد أبرز مراكز إنتاج الذهب، وهو خاضع منذ سنوات لهيمنة الدعم السريع. أما منطقة سنقو في جنوب دارفور، الواقعة على المثلث الحدودي مع جنوب السودان وأفريقيا الوسطى، فهي منطقة الامتياز الأهم لشركة "الجنيد"، التي تسيطر على مساحة تتجاوز 2000 كيلومتر مربع.

تعتمد الشركة على شراء خام "الكرتة" من المعدنين الأهليين بأسعار زهيدة أو عبر المقايضة؛ إذ تمنحهم برميل وقود واحد مقابل ست شاحنات محملة بالحجر الخام، تستخلص منها كميات كبيرة من الذهب.

وينقل الذهب المنتج في معامل الشركة إلى منطقة أم دافوق المتاخمة لأفريقيا الوسطى، حيث شيد الروس مهبطا للطائرات بجوار معسكر تدريب تابع للمليشيا، يستخدم كذلك لعمليات التهريب الجوي.

تقارير عديدة تشير إلى أن تهريب الذهب لا يجري في الخفاء فقط، بل أحيانا بغطاء رسمي أو بتسهيلات من داخل مؤسسات الدولة. في عام 2020، كشفت إحدى الدوريات الصحفية عن استخدام وفد من شركة "الجنيد" طائرة رئاسية ومروحية عسكرية لنقل مهندسين وأجانب – بينهم روس وجنوب أفارقة – إلى منطقة سنقو.

الرحلة التي كادت قوات الجيش أن تسقطها بطريق الخطأ، توقفت بأوامر من قيادات عليا بعد اتصالات عاجلة أكدت هوية الركاب، ما يفضح مستوى الحماية السياسية التي تحظى بها شبكات التهريب.


يورانيوم ونفط... ثروات أخرى تحت النار
لا يقتصر النهب على الذهب وحده٬ تقرير صادر عن هيئة الأبحاث الجيولوجية الحكومية أشار إلى أن ولاية غرب دارفور غنية باليورانيوم والحديد والنحاس والرخام، إضافة إلى تسعة مربعات مرخصة للتعدين في جبل مون ومناطق أخرى.

وفي ولاية وسط دارفور، تحتوي مناجم "الهشابة" غرب جبل مرة على معادن عدة بينها الذهب والرصاص والكروم. أما شرق دارفور، فينتج النفط من حقول شارف وزرقة وأم حديد بقدرة تصل إلى خمسة آلاف برميل يوميا، لكن الحرب التي اندلعت عام 2023 أوقفت الإنتاج بعد حرق ونهب بعض الآبار.

شهود محليون أكدوا أن مليشيا الدعم السريع بدأت نقل النفط الخام من حقل سفيان عبر ناقلات إلى دولة تشاد، عبر معبر "أديكونق" الحدودي، في تموز/يوليو الماضي. تحول إقليم دارفور إلى مربعات اقتصادية تتنازعها الشركات الأجنبية والمليشيات المحلية، في وقت تتواصل فيه الحروب التي تدمر البنية التحتية وتمنع الاستثمار.

ومع استمرار النهب، انهارت قطاعات الزراعة والثروة الحيوانية والصمغ العربي، وتراجع الإنتاج الزراعي بسبب التهجير والنهب ومنع دخول الأمصال والوقود إلى مناطق الإنتاج. تقديرات منظمات محلية تشير إلى أن آلاف المزارعين والمنتجين قتلوا أو نزحوا، بينما أغلقت الأسواق وتوقفت الصادرات، ما حول المجتمعات الريفية إلى مناطق جوع قسري.

الفاشر... من مركز تجارة إلى مدينة محاصرة
كانت مدينة الفاشر، عاصمة شمال دارفور، قلب النشاط الزراعي والتجاري في الإقليم. ووفقا لتقرير للموسوعة البريطانية في أيلول/سبتمبر الماضي٬ وصفت بأنها "مركز قوافل تاريخي" و"حلقة رئيسية في تسويق الحبوب والفاكهة والمواشي".

لكن الحصار الذي فرضته مليشيات الدعم السريع خنق اقتصاد المدينة تماما. بحسب تقارير أممية، أصبحت الفاشر نموذجا لانهيار الأسواق المحلية وارتفاع الأسعار وانعدام الأمن الغذائي. ومع سيطرة مليشيات الدعم السريع على الفاشر وتصفية آلاف المدنيين، انهار الاقتصاد المحلي بالكامل.

أغلقت الطرق، وتعطلت القوافل الإغاثية، وارتفعت أسعار السلع إلى مستويات غير مسبوقة، حتى أصبح الحطب في بعض الأحياء أغلى من أجرة يوم عمل كاملة. يمتد نفوذ المليشيات كذلك إلى مناطق إنتاج الصمغ العربي في شمال كردفان، حيث تسيطر على ثلاث من أصل أربع طرق رئيسة تؤدي إلى مدينة الأبيض.

وتفرض مليشيا الدعم السريع رسوما على الشاحنات تصل إلى مليون جنيه سوداني للشحنة الواحدة، بينما تواصل تهريب الإنتاج رغم توقف أكثر من 80% من المنتجين عن العمل بسبب الحرب. تقدر كميات الإنتاج قبل الحرب بنحو 50 ألف طن سنويا، لكنها تراجعت بشكل حاد مع اتساع نطاق القتال، وتحول الصمغ إلى سلعة في اقتصاد الظل الذي تموله المليشيات.


نهبٌ ممنهج لتفكيك الدولة
تُظهر الوقائع أن الحرب في السودان لم تعد مواجهة عسكرية بين جيش نظامي ومليشيا متمردة فحسب، بل تحولت إلى منظومة اقتصادية موازية تقوم على نهب الثروات وتمويل الحرب ذاتيا.

سيطرة الدعم السريع على مناجم الذهب وطرق الصمغ والنفط منحتها قدرة مالية هائلة مكنتها من شراء السلاح وتجنيد المقاتلين وإطالة أمد الحرب. في المقابل، غاب الدور الرقابي للدولة، وتحول الاقتصاد الرسمي إلى مجرد واجهة لا تغطي سوى جزء ضئيل من الأنشطة الفعلية التي تدور في الخفاء.

تقديرات خبراء الاقتصاد تشير إلى أن فقدان السودان أكثر من ثلثي عائداته من الذهب وحده، أدى إلى انهيار قيمة الجنيه وارتفاع التضخم وتراجع القدرة الشرائية للمواطنين بشكل كارثي.

ومن تهريب الذهب إلى سرقة النفط ونهب الصمغ العربي، تتضح معالم حرب اقتصادية ممنهجة تديرها المليشيات وشبكات أجنبية متواطئة، هدفها السيطرة على الموارد وتمويل الحرب وإدامة الفوضى.

وبينما تغرق البلاد في المجاعة والنزوح، تواصل الطائرات الإقلاع من مهابط غير مسجلة محملة بذهب سوداني يختفي في أسواق بعيدة، فيما يبقى المواطن العادي رهينة الجوع والحصار والانهيار.